لم يتّبع الرئيس الأميركي باراك أوباما سياسة تقليدية، خصوصاً في الشرق الأوسط، وهي سياسة لاقت انتقاداً شديداً من الحزب الجمهوري، لا سيما الاتفاق النووي مع إيران، والحرب السورية.
جاء أوباما الى الحكم بعد ولايتين متتاليتين لجورج دبليو بوش التي ذهبت إدارته الى حدّ تلفيق رواية حيازة نظام صدام حسين أسلحة دمار شامل تبريراً لغزو العراق. استسهلت إدارة بوش الحروب في مناخ داخلي ودولي مؤات بعد اعتداءات 11 ايلول ولم تعد تعرف كيف تخرج من الورطة التي صنعتها أيديها. حرب أفغانستان لضرب «القاعدة» شيء، يمكن تبريرها في سياق الردّ على اعتداء إرهابي، وافتعال الذرائع لحرب العراق شيء آخر.
فلو كان بوش على معرفة دقيقة بتعقيدات الوضع العراقي، لما كان توهّم أن الاجتياح العسكري سيحوّل العراق واحة ديموقراطية وسلام، خلافا للسياسة التي اتبعها جورج بوش الأب بدراية واتزان قبل حرب تحرير الكويت وبعدها. أخطاء فادحة ارتكبتها واشنطن في العراق، أبرزها حلّ الجيش العراقي والحملة العشوائية لاجتثاث البعث وإبقاء الحدود مفتوحة مع دول الجوار، المناوئة للسياسة الأميركية لأسباب مختلفة. ومع هذا التخبّط، بات الإنجاز الأهم لإدارة بوش التحالف مع العشائر (الصحوات) بعدما كان الهدف المعلَن إقامة شرق أوسط ديموقراطي جديد، لم يبق من جديده سوى عصبيات تعود جذورها الى أكثر ما تحتويه المنطقة من قِدَم. هكذا جاء انتخاب أوباما على خلفية هذا الفشل المُكلف وباتت الأولوية إخراج الجيش الأميركي من المستنقع العراقي.
في النزاع العربي ـ الإسرائيلي، حاول أوباما رفع سقف شروط التفاوض، معلناً في خطاب شهير في جامعة القاهرة في 2009 أن المستوطنات الإسرائيلية غير شرعية. وسرعان ما اصطدم برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ووصل الصدام الى حدّ الإعلان عن بناء مستوطنات جديدة في القدس بالتزامن مع زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الى اسرائيل في 2010. كما أن محاولات وزير الخارجية جون كيري لإعادة إحياء المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل وصلت الى طريق مسدود.
لكن ليس بإمكان تل أبيب أن تمنع واشنطن من التفاوض والاتفاق مع طهران بعد قطيعة دامت ثلاثة عقود. وسرعان ما نقل نتنياهو حربه السياسية والإعلامية الى واشنطن في تحدٍّ غير مسبوق للرئيس في الكونغرس الأميركي.
اعتمد أوباما مقاربة غير مألوفة في علاقات واشنطن مع دول الخليج العربي، فلم يجامل قادتها عندما تناول مسائل بالغة الحساسية، منها الإصلاح المطلوب في السلطة والمشاركة الفعلية في التصدي للإرهاب، بدل الاتّكال على الولايات المتحدة. أما الدفاع عن أمن دول الخليج فهو من ثوابت السياسة الأميركية، بمعزل عن أي مسألة اخرى.
في الحرب السورية، سياسة أوباما كانت مترددة الى حدّ التراخي، بنظر كثر في أميركا وخارجها. بدا الفشل الإميركي في العراق ماثلاً أمام أوباما، فلا اعتداءات إرهابية شبيهة بـ 11 ايلول، بينما واشنطن تتهيأ للانسحاب العسكري من افغانستان. كما ان التدخل العسكري الاميركي المباشر في سوريا، بلا تنسيق مع الاطراف المنخرطة في النزاع، قد يؤدي الى مواجهة اكثر كلفة وخطورة من حرب العراق. اكتفت واشنطن بإنجاز سحب السلاح الكيميائي من سوريا من دون الحاجة الى مواجهات عسكرية، وهي تشارك في العمليات العسكرية ضد داعش بالتنسيق مع تركيا. وأخترعت واشنطن بدعة تدريب مقاتلين « معتدلين» لمواجهة المتطرفين. هذا الخيار الواهم فشل منذ انطلاقته، الا ان ضرره يظل محدوداً بالمقارنة مع الحرب العسكرية الشاملة.
في حرب العراق بعد 2003، التقت معظم الدول العربية على رفض التدخل العسكري الأميركي وسعت الى افشاله، بينما طالبت وبإلحاح بتدخل عسكري اميركي في سوريا. هذا مع العلم ان التهوّر الاميركي في العراق الذي أصاب الحلفاء كما الأعداء، يمكن ان يتكرّر في سوريا حيث النزاع اكثر تشابكاً من النزاع العراقي عندما كانت واشنطن القوة العسكرية الحاسمة.
اللوم العربي الأبرز على اميركا في العراق تمثل بمعارضة اسقاط النظام وبمسايرة ايران، بينما اللوم في سوريا مردّه الى عدم اسقاط النظام وعدم مناصرة القوى المعارضة له. اسباب التحول في السياسة الاميركية بقيادة اوباما معروفة، لكن ما المعيار الذي يفسر المعارضة العربية للتدخل العسكري الأميركي في العراق والمطالبة به والاصرار عليه في سوريا.
جاءت سياسة اوباما الخارجية كردّ فعل على سياسة سلفه المتأثرة بمقولات «المحافظين الجدد» والمبنية على فرضية ان تغيير الدول والمجتمعات ممكن بوسيلة القوة العسكرية. عندما هدّد رونالد ريغان باستعمال القوة في «حرب النجوم» في الثمانينيات كان الهدف الاستراتيجي زعزعة الاتحاد السوفياتي، وهذا ما حصل. اما استعمال القوة في العراق فكان بلا افق ولأهداف واهية.
سياسة اوباما الخارجية جمعت بين الحزم والواقعية في ظل الظروف الاقليمية والدولية الراهنة، وهي تلتقي مع سياسة رؤساء جمهوريين عرفوا كيف يوائموا بين التشدّد والمرونة من اجل الهدف المنشود: بوش الاب بعد حرب تحرير الكويت، ريغان بعد الاجتياح السوفياتي لافغانستان، نيكسون مع انفتاحه على الصين الشيوعية، وايزنهاور في حرب السويس.
مع الرئيس الاميركي المنتخب دونالد ترامب، المجهول سيد الموقف والمعايير مبعثرة، اضافة الى اختلاف المشهد الاميركي والدولي والشرق اوسطي عن المراحل السابقة.
ترامب ونتنياهو يلتقيان في الاسلوب والسياسة والمصلحة، اكثر مما يلتقي نتنياهو واوباما. وفي سوريا التعاون غير مُستبعد بين ترامب والرئيس الروسي بوتين للتصدي للارهاب وربما لايجاد تسوية سياسية. لعل الرادع الاكثر تأثيرا في سياسة ترامب الخارجية يرتبط بالجانب الاقتصادي، مصالح رجال الاعمال والشركات الكبرى تحديدا، والرئيس الجديد هو الاكثر تمثيلا لها ودفاعا عن مصالحها.
يبقى ان الملف الاكثر تعقيدا وغموضا يرتبط بالعلاقات الاميركية ـ الايرانية والاجراءات التي يمكن ان تتخذها ادارة ترامب لمواجهة «اتفاق فيينا» النووي مع ايران، مع احتمال ان يؤدي التهور الى صدام عسكري بين اسرائيل وايران، وما لهذا السيناريو الافتراضي من تداعيات كارثية على المنطقة والاقتصاد العالمي.