ما الذي يستند إليه القرار المفاجئ للرئيس فلاديمير بوتين بشأن البدء في سحب القوات الروسية من سوريا؟ أتراه قضى عطلة نهاية الأسبوع في قراءة مقالة جيفري غولدبيرغ في مجلة «ذي أتلانتيك»٬ ثم استنتج أن الرئيس أوباما كان على صواب حول الفوضى السورية الراهنة٬ وأنه ينبغي عليه الانسحاب قبل أن يخوض أكثر فأكثر في المستنقع السوري الخطير؟
أثارت مقالة غولدبيرغ كثيرا من التعليقات٬ حتى إن والد المؤلف ووالدته أصابهما الضيق والضجر الشديد من استمرار المناقشات حول هذا الموضوع. ولكن إليكم بعض الأفكار الموجزة حول الأمر٬ والناتجة جزئيا عن اعتماد بوتين لما كانُيعرف إبان حرب فيتنام بأنه «استراتيجية أيكين» والمستمد اسمها من اسم السيناتور جورج أيكين (الجمهوري من ولاية فيرمونت)٬ الذي قال في عام 1966 إنه حري بالولايات المتحدة أن تعلن انتصارها في حرب فيتنام٬ وإعادة نشر قواتها التي يمكننا اليوم تغيير اسمها إلى «نسخة غولدبيرغ» من ذات الاستراتيجية.
تعد مقالة غولدبيرغ سلطوية ومقنعة. ولكنها تلقي الضوء على السبب الذي من أجله يحتفظ الرؤساء بمثل تلك التفسيرات لصالح كتابة مذكراتهم اللاحقة. فمثل تلك الصراحة تسبب زعزعة للاستقرار في أغلب الأحيان٬ حيث يكتشف الأصدقاء والأعداء٬ على حد سواء٬ ما يفكر فيه الرئيس فعليا٬ وهي المسألة التي غالبا ما يكتنفها الغموض البناء. قد نتصور حالة الازدراء المتزايدة التي يشعر بها أوباما نحو العرب٬ وشكوكه المتصاعدة المستندة إلى ذلك الازدراء لمؤسسة السياسة الخارجية٬ ورؤيته «القدرية» حول حدود القدرات الأميركية في الخارج. والآن٬ ومن زاوية «مبادئ أوباما»٬ صار لدينا فصل وآية.
عندما يقوم الرئيس أوباما بزيارته إلى المملكة العربية السعودية خلال ربيع هذا العام٬ فهل سيساعدنا الآن معرفة أن الرئيس أوباما قال لرئيس الوزراء الأسترالي٬ على سبيل السخرية٬ إن «الوضع معقد للغاية»٬ ردا على سؤال حول ما إذا كانت المملكة العربية السعودية من أصدقاء الولايات المتحدة؟
ولكن ذلك يأتي على النقيض من دبلوماسية برنت سكوكروفت الهادئة التي يفضلها أوباما كثيرا في أغلب الأحيان.
كانت لهجة أوباما طوال الحوار تعكس قدرا عاليا من الثقة بالنفس والنزعة الدفاعية الغريبة بعض الشيء٬ حيث يستشعر القارئ أن الرجل كان يتوق إلى توبيخ ةمؤسسة السياسة الخارجية منذ عام ٬2009 حينما شعر الرئيس بأنه مضطر إلى نشر ثلاثين ألف جندي أميركي في أفغانستان على الرغم من تقديره الحصيف للأمور هناك. وجاءت رسالته٬ بالأساس٬ لتقول: لقد كنت محقا٬ لكنكم لم تصغوا إلى ما أقول.
قد يعتقد أحدنا٬ مع الأزمة السورية المتفاقمة التي أودت بحياة 300 ألف مواطن٬ وتسببت في دمار مروع في سوريا٬ وهددت أمن واستقرار أوروبا٬ أنه كان لدى الرئيس الأميركي أفكار أخرى تدور حول حكمته وحصافته السياسية. وليس الأمر كذلك٬ حيث يقول غولدبيرغ كاتبا في مقالته: «مع اقتراب ميعاد نزوله عن منصبه الرسمي٬ يعتقد الرئيس أوباما أنه قدم إلى بلاده خدمة جليلة بالابتعاد تماما عن المستنقع السوري٬ كما أنه يعتقد٬ كما أظن٬ أن يحكم عليه المؤرخون ذات يوم بالحكمة والحصافة لقراره ذلك».
من الصعب الوقوف على القرارات الصحيحة تماما فيما يتعلق بالأزمة السورية. ولكن كيف يمكن لذلك أن يكون من قبيل النتائج التي يفاخر بها الرئيس الأميركي على أي حال؟
في مقالة بمثل هذا الوضوح والشمول٬ كان هناك أمران تم تهميش الحديث عنهما بصورة غريبة٬ على الرغم من أنهما كانا من أولويات الرئيس الأميركي عندما تولى منصبه أول الأمر.
الأمر الأول كان سعي أوباما الحثيث لإبرام الاتفاق النووي مع إيران٬ وهو الهدف الذي تضاءلت إلى جانبه كل الأهداف الأميركية الأخرى والمتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط. وفي تدوينات عبر الإنترنت حول مقالة غولدبيرغ٬ قال جاي سولومون٬ من صحيفة «وول ستريت جورنال»٬ ودنيس روس٬ المسؤول الكبير السابق في الإدارة الأميركية٬ إن أوباما لم ينفذ عسكريا إعلان «الخط الأحمر» بشأن استخدام الحكومة السورية للأسلحة الكيميائية بحق المدنيين٬ ويرجع ذلك في جزء منه إلى أنه لم يشأ أن يؤدي ذلك إلى إفشال المحادثات النووية مع الجانب الإيراني.
يقلل الرئيس أوباما من سقف توقعاته هذه الأيام بشأن الاتفاق الإيراني٬ وإلى ما وراء بعض الحدود المعينة الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني. لكنني أظن أنه ينظر إلى الأمر من زاوية أنه انفتاح استراتيجي ذو أهمية خاصة بالأساس في منطقة الشرق الأوسط٬ الذي قد يسفر عن خلق نوع من التوازن النهائي في القوى ما بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران٬ وما بين السنة والشيعة٬ ومحاولة رأب الصدع الذي يعصف بالشرق الأوسط برمته. ومن الناحية الشخصية٬ أعتقد أن الرجل محق في رؤيته تلك من حيث اعتبار الأمر بداية محتملة لبنية أمنية جديدة. وقد يحتفظ الرجل بتيمة مثل هذه لصالح مذكراته المقبلة.
أما الأمر الثاني والمفقود من الحوار الثري فهو ما وصفته سالفا بأنه «الرهان الكوني» لأوباما في عام 2011 حول الأحزاب الديمقراطية الإسلامية٬ بما فيها حركة الإخوان المسلمين في مصر٬ وحزب العدالة والتنمية٬ وهو النسخة الإخوانية من الحركة نفسها في تركيا. تعامل أوباما مع الرئيس المصري المعزول محمد مرسي والرئيس التركي رجب طيب إردوغان من واقع أنهما أدوات التغيير الديمقراطي في المنطقة. ولقد كان قراره في ذلك مفهوما٬ لكننا نرى ونسمع الآن أن ذلك كان من قبيل الأخطاء الفادحة للغاية. فلقد انتقل الأمر بثورات الربيع العربي في اتجاه شديد الخطورة لم تستطع الدول العربية التعافي منه حتى الآن.
وبصرف النظر تماما عما يمكن قوله حول الظروف التي دفعت بالرئيس عبد الفتاح السيسي إلى واجهة الأحداث بوصفه الرئيس الحالي لمصر٬ فربما حالت تلك الظروف٬ بطريقة أو بأخرى٬ من تكون التحالف الإخواني المصري التركي الذي كانت عواقبه كارثية لو قُدر له البقاء. غير أن غولدبيرغ مّر مرور الكرام على هذا المسار السياسي في حديثه مع الرئيس الأميركي.
والسؤال الرئيسي فيما يتعلق بـ«مبادئ أوباما» هو ما إذا كان أوباما محقا في كبح جماح التمدد الأميركي المفرط في شؤون الشرق الأوسط٬ كما وصفه تماما بين رودس٬ الموظف المساعد في البيت الأبيض. قدر أوباما الأمر بأن منطقة الشرق الأوسط لم تعد ذات أهمية قصوى من زاوية المصالح العليا الأميركية٬ وأن هناك القليل للغاية مما يمكن لأي رئيس للولايات المتحدة أن يصنعه لكي يجعل من تلك المنطقة مكانا أفضل٬ وأن الوساطة أو التدخل الأميركي في شؤون تلك المنطقة يؤدي إلى خسائر في أرواح الجنود الأميركيين٬ وإلى نزف مستمر ومستدام في مصداقية وسلطة الولايات المتحدة حول العالم.
ولقد جانب أوباما الصواب في الأمور الثلاثة٬ فمن زاويتي الشخصية: فلمنطقة الشرق الأوسط أهميتها٬ ويمكن للولايات المتحدة المساعدة٬ وعدم الاضطلاع بتلك المسؤولية يسبب أضرارا لموقفنا المعلن عالميا. ولكن حتى لو كان الرجل على حق٬ فإنه بحاجة إلى التفكير مليا في أحد الدروس المستفادة من فترته الرئاسية الطويلة٬ فمع التراجع الأميركي المشهود عن منطقة الشرق الأوسط٬ تركت الفراغ مفتوحا لقوى أخرى كي تحل محلها. وما كان من روسيا إلا أن تحركت لملء ذلك الفراغ المتحقق من انسحاب القوة الأميركية عن المنطقة٬ وكذلك فعلت إيران٬ وأخيرا تنظيم داعش الإرهابي.
فهل الولايات المتحدة أفضل حالا في ظل عالم تقدمت فيه هذه القوى مجتمعة أثناء تراجعنا؟ لا أعتقد ذلك أبدا.
خدمة: واشنطن بوست