في المسألة السورية، وتعقيداتها المحلية والإقليمية والدولية، وملايين المشردين والنازحين بنتيجتها إلى أوروبا والعالم، طرح مراراً السؤال عن الدور، أو «اللادور»، الذي لعبه الرئيس الأميركي باراك أوباما فيها على مدى حوالى خمس سنوات. لكن التدخل العسكري الروسي أخيراً، وتحول سورية إلى سلطة من دون دولة أو حتى من دون شعب، وتحت احتلال روسي من الجو، وإيراني (متعدد الجنسيات) على الأرض، وأمام مصير مجهول إلى أمد مفتوح على كل الاحتمالات، يجعل السؤال من صنف الاتهام الذي لا بد من طرحه وبقوة الآن: لماذا هذا الدور، أو حتى «اللادور»، الأميركي الذي أوصل الأمور في سورية إلى ما وصلت إليه؟.
للإجابة عن السؤال، ينبغي أولاً الوقوف عند ما سماه الرئيس الأميركي نفسه «الصبر الاستراتيجي» (Strategic patience) تجاه الأوضاع في الشرق الأوسط والحرب الدائرة في سورية، كما عند ما قاله أحد كبار الاستراتيجيين في السياسة الخارجية الأميركية، زبغنيو بريجنسكي، بشأن الأمر ذاته. قال بريجنسكي في مقال له نشر أخيراً في صحيفة «الفايننشيال تايمز» البريطانية: «إن الغموض قد يخفي استراتيجية لكنه قد يعني أيضاً عدم وجود هذه الاستراتيجية… وكما يبدو، فان حال واشنطن في هذه المرحلة هي الحال الثانية»، أي ما معناه أن لا صبر ولا استراتيجية لدى أوباما إزاء المنطقة وسورية، إذا كان للصبر في حد ذاته أن يشكل استراتيجية في أي زمان أو مكان.
والواقع أن ما اعتاد البعض، داخل الولايات المتحدة وخارجها، على وصفه بـ «تردد» الرئيس الأميركي طيلة الفترة الماضية، لم يكن في حقيقته إلا تعبيراً عملياً عن غياب هذه الاستراتيجية. وحتى في ما يتعلق بالاتفاق النووي مع إيران، ومحاولة أوباما تصويره إنجازاً استراتيجياً لبلاده وللسلام في المنطقة والعالم، فلم يعد خافياً أنه كان هروباً أميركياً من قضايا ليست أقل خطراً أو أهمية منه، بل هي في الواقع أم المشاكل وولاّدتها في المنطقة: القضية الفلسطينية. ولا حاجة لإعادة التذكير بالطريقة التي قارب بها أوباما هذه القضية، من كلامه الكبير بعد انتخابه في 2008 إلى غيابه الكامل عنها بعد ذلك وعلى مدى الأعوام التالية.
قد يقال، وربما عن حق، إن أوباما لم يملك ليس استراتيجية فقط تجاه المنطقة إنما لم تكن لديه حتى سياسة فيها. ولعل أقرب دليل على ذلك ما وصف بـ «الخط الأحمر» الذي وضعه في 2012 إذا ما استخدم رئيس النظام السوري بشار الأسد الأسلحة الكيماوية ضد شعبه. وعندما تم ذلك فعلاً، وذهب أكثر من 1400 مواطن سوري ضحية الأسلحة الكيماوية في الغوطة، ووجد أوباما نفسه أمام استحقاق تنفيذ تهديده، قال علناً إنه اتخذ قراره في هذا الشأن. لكنْ لم تمر سوى أيام معدودة، حتى أعلن أنه يربط تنفيذ قراره بموافقة الكونغرس مع أنه، بحسب الدستور الأميركي، ليس في حاجة إلى مثل هذه الموافقة.
وإذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أنقذه حينها، من خلال إقناع الأسد بالتخلي عن أسلحته الكيماوية، فليس مبالغاً به اعتبار انه منذ تلك الواقعة تحديداً بدأ بوتين يتعامل مع أوباما، وحتى مع السياسات الأميركية كلها، «من فوق» كما يقول العامة في مثل هذه الحالات. وعندما عمد أوباما إلى الإشادة ب»دور روسيا البناء» في المفاوضات النووية مع إيران، على رغم احتلالها في تلك الأثناء شبه جزيرة القرم وتهديدها أوكرانيا، فان فوقية بوتين هذه جعلته يرسل مقاتلاته الحربية ودباباته إلى سورية ليكتفي أوباما بالقول إن هذه الحركة «دليل ضعف» أكثر مما هي دليل قوة.
هل هذا فقط؟.
لعل ما بات أوباما يعترف به في المدة الأخيرة، تحت عنوان أنه «سياسات فاشلة»، إن في العراق أو في سورية أو حتى مع روسيا وإيران وتركيا ودول الخليج، يصلح لتأكيد الحقيقة السالفة الذكر… وهي أنه لم تكن لديه لا استراتيجية بعيدة المدى في المنطقة ولا حتى سياسة للأمد القصير.
في العراق، لم يفعل أوباما قبل سحب قواته منها أو بعده، إلا أنه سلم السلطة كاملة إلى إيران، أقله في المرحلة الأولى، من خلال إبعاد الكتلة الفائزة في الانتخابات برئاسة إياد علاوي عن الحكم، ثم في الأعوام التالية من خلال التغاضي عن كل ما فعله رئيس الوزراء نوري المالكي في العراق لحساب إيران وحتى ضد مصلحة واشنطن نفسها. ويجب القول انه، في الفترة الأخيرة تحديداً، لم يكن رئيس الوزراء العراقي الحالي حيدر العبادي ليتراجع عن نيته طلب تدخل الطائرات الروسية ضد «داعش» في العراق، لو لم ينتقل رئيس الأركان الأميركي في آخر لحظة إلى بغداد ليطالبه بالتراجع.
في سورية، لم تعد خافية حكاية رفض أوباما نصيحة وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، ومعها كل من وزير الدفاع ومستشار الأمن القومي ورئيس وكالة الاستخبارات «سي آي أي»، منذ 2012، بتسليح المعارضة السورية المعتدلة، ولا بعد ذلك تدريب عدد من عناصر هذه المعارضة لكن بشرط قتالها ضد «داعش» فقط من دون قوات النظام (وهو ما اعترف أوباما أخيراً بأنه كان خطوة فاشلة، لهذا الشرط بالذات)، ولا خلافه الدائم مع تركيا حول إقامة منطقة حظر طيران في شمال سورية، من دون أن ننسى شروطه الأخرى على السعودية وقطر والأردن لمنع نقل أسلحة من صنع أميركي لديها إلى هذه المعارضة.
والأدهى أنه، في مقابلة أوباما الأخيرة مع البرنامج التلفزيوني الأميركي الشهير «ستون دقيقة» (60 minutes) تعمد تبرير ذلك بالقول: إن التدريب الفاشل يتحمل مسؤوليته من نصح به، وليس هو شخصياً، وإن منطقة حظر الطيران كانت تحتاج إلى من يحميها في الجو وعلى الأرض، وليست لديه قدرة أو رغبة بذلك، وإن الميليشيات الكردية في سورية حليفة لواشنطن، تماماً كما هي أنقرة التي تشن حرباً شعواء عليها، وعلى رغم أنها تقيم حكماً ذاتياً لها وتتعاون مع النظام في دمشق، وإن الأسد (لاحظ هنا إغفاله دور إيران وميليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية) كان مهيأ لأن يرحل قبل أعوام لولا «داعش» وأمثاله من التنظيمات الإرهابية في سورية والعراق وغيرهما.
فهل يتحمل الأسد، ومعه طبعاً «الولي الفقيه» الإيراني علي خامنئي و «القيصر» الروسي بوتين، وحدهم مسؤولية الكارثة الإنسانية والمادية والسياسية التي حلت بسورية وشعبها طيلة الأعوام الماضية، أم أن لأوباما حصة كبيرة في هذه المسؤولية؟.