بسبب النمو المتسارع الذي حققته الثورة الصينية الثانية في عهد الرئيس هو جين تاو، كان لا بد من الحصول على موارد إضافية كالتي تفتقر إليها أكبر دولة عدداً في العالم.
وانطلاقاً من هذه القاعدة، باشرت الصين تسللها إلى القارة السمراء عبر الدول الأفريقية التي دعمتها مادياً، واخترقتها عقائدياً خلال الستينات والسبعينات. كل هذا كان يتم في ظل أعلام الحزب الشيوعي الذي رعت بكين نشاطاته في أنغولا ونيجيريا والسودان وإثيوبيا والكونغو.
مطلع سنة 2006 اشترت الصين 45 في المئة من حقل «أكبو» البحري النيجيري بقيمة 2.7 بليون دولار. ثم انضمت إلى شريك للاستثمار في أنغولا برأسمال قدره 725 مليون دولار. كل هذا في محاولة للسيطرة على حاجاتها الاستهلاكية من النفط والغاز، المادتين اللتين تفتقدهما معظم دول آسيا. لذلك ركزت بكين على استمالة الدول الأفريقية كأهداف محتملة للحصول على منتجات الطاقة.
وبين الأحداث الدولية التي دفعت القيادة الصينية إلى اتخاذ هذا المنحى حدثان مهمان، أولهما انهيار المنظومة الاشتراكية وتدمير جدار برلين الذي فتح مجالات تصحيح أخطاء جغرافية في أوروبا. والمثل على ذلك أن ألمانيا التي تقسمت بالقوة وعادت إلى اتحادها السابق… وتشيكوسلوفاكيا التي توحدت بالقوة فعادت إلى الانفصال السابق.
ومع ظهور هذه التحولات العالمية، حافظت الصين على نظام الحزب الواحد والإخلاص لاشتراكية قومية واجهت بها تيارات العولمة الشاملة. وكان من الطبيعي أن تحصن امتداداتها في أفريقيا بموجة ثقافية توقعت أن تساعدها على الانتشار. علماً أن اللغتين الإنكليزية والفرنسية كانتا تمثلان اللغة الثانية بالنسبة إلى الأنظمة المحلية. والسبب أن بريطانيا وفرنسا استعمرتا تلك البلدان وقتاً طويلاً من الزمن. وقد حافظت الحكومات البريطانية على مؤسسة «الكومنولث» كنموذج للمشاركة التي جنت من مكاسبها الشيء الكثير. وحدث أثناء اجتماعات هذه السنة في لندن أن أعلنت الملكة اليزابيث الثانية ولي العهد الأمير تشارلز ممثلاً ورئيساً لهذه المجموعة.
من أجل إحداث التغيير المطلوب، طرحت الصين نفسها محررة لبلدان أفريقيا من الاستعمار الأوروبي. وكان هذا الشعار كافياً لتوسيع رقعة نفوذها، خصوصاً بعد إنشاء «منتدى التعاون الصيني- الأفريقي» سنة 2004. وقد نظمت بكين للمناسبة مؤتمراً استقطب 43 دولة أفريقية. وعلى الفور اندفعت وزارة الخارجية الأميركية لاستضافة مؤتمر حول دور الصين في أفريقيا، وتأثيره على المصالح الأميركية والغربية.
في ضوء هذا الصراع الصامت بين الصين وأوروبا في أفريقيا، دعا الاتحاد الأوروبي إلى تفادي المواجهة خشية الإساءة إلى مشاريع التنمية والبنى التحتية التي ساهمت الكتلتان في إنشائها، خصوصاً بعد ارتفاع حدة المنافسة عقب تجاوز عدد شركات التجارة والاستثمار الصينية الألف شركة. ولقد أعانها على سرعة النمو والانتشار امتلاك المؤسسات الصينية امتيازات انخفاض كلفة اليد العاملة. وبناء على تلك الامتيازات أسست بيكين خمسمئة شركة بلغ عدد موظفيها العاملين في أفريقيا تسعين ألف موظف صيني سنة 2006. وبسبب ذلك الحضور المتنامي والمقلق، ازدادت الحملات الإعلامية التي كان يشنها الاتحاد الأوروبي ضد الوجود الصيني في القارة السمراء. لذلك اضطر سفير الصين لدى الاتحاد إلى الدفاع عن دور بلاده من خلال مؤتمرات صحافية ركز فيها على المساهمة الاقتصادية التي تقدمها الصين في مجالات تطوير البنية التحتية لتلك البلدان الفقيرة. ولمّح السفير أيضاً إلى الثروات الخيالية التي حققها المستعمرون الأوروبيون من وراء تجارة العبيد بين أفريقيا والولايات المتحدة. ولقد أشار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في مذكراته إلى انتعاش تجارة الرقيق، مذكّراً أن عدداً من أنسبائه القدامى تم شراؤهم في كينيا بغرض نقلهم إلى مزارع العبيد في الولايات المتحدة.
بعد مرور فترة الاختبار التي أمضاها الرئيس دونالد ترامب في استبدال كبار موظفي البيت الأبيض، واجهته أزمة اقتصادية نسبها إلى تمدد نفوذ الصين واتساع علاقاتها مع الدول المنتجة للنفط.
واعتبر الرئيس الأميركي أن القفزات السريعة التي حققها الرئيس الصيني تشي جين بينغ تشكل خطراً دائماً على الأسواق التجارية التي تنعش اقتصاديات بلاده. وعليه قرر فرض رسوم جمركية على مجمل الواردات من الصين. وأتبع هذا القرار بتصريح أعرب فيه عن استعداده لتوسيع فرض الرسوم حتى 500 بليون دولار، متهماً بكين باستغلال أسواق الولايات المتحدة.
وبعد انقضاء أسابيع من المفاوضات غير المثمرة، فرضت الإدارة الأميركية رسوماً جمركية إضافية بنسبة 25 في المئة على المنتجات الميكانيكية والتكنولوجية الصينية.
وكان من الطبيعي أن يحرج هذا القرار الانتقامي بكين التي اتهمت واشنطن بشن أكبر حرب تجارية في التاريخ الاقتصادي.
إضافة إلى هذا العمل الاستفزازي، لاحظت القيادة الصينية أن ترامب يسعى إلى تطويق نشاطاتها في أفريقيا، مع السعي المتواصل إلى حرمانها من إقامة علاقات وثيقة مع الدول العربية المنتجة للنفط. وترى هذه القيادة أن واشنطن تخشى من تعميق علاقات الصين التجارية مع الدول النفطية بالذات، الأمر الذي يضع الدول العربية في مرمى المشروعات التي تمولها وتديرها بكين. وهذا يعني في نظر واشنطن ازدياد نفوذها السياسي من طريق نفوذها الاقتصادي. خصوصاً أن حجم الناتج المحلي الإجمالي في الصين بعد سنتين يفوق مرتين حجم الناتج في الولايات المتحدة، حسبما قدّر الخبراء.
ومع نشوء هذا الوضع الجديد تتساءل الإدارة الأميركية ما إذا كان بمقدورها معاملة الصين مثلما عاملت الاتحاد السوفياتي سابقاً، أي دولة عدوة يجب محاربتها على كل الجبهات؟!
الجواب الذي قدّمه أهل الاختصاص في واشنطن ونيويورك يقضي باستبعاد خيار العداء للصين بسبب اختلاف وضعها عن وضع الاتحاد السوفياتي السابق. وأقل ما يُقال في هذا السياق إن الصين تستثمر في الولايات المتحدة أكثر من 700 بليون دولار في سندات الخزينة. وقد استندت هذه المعادلة إلى دعوة واشنطن لضمان استثمارات الصين لديها مقابل محافظة الصين على قوة الدولار.
ووفق توصيات «اللجنة المشتركة» الأميركية، قرر الرئيس ترامب منع الصفقات الأجنبية لأسباب تتعلق بسلامة الأمن القومي. ومن المتوقع أن يوافق الكونغرس على قرار تعتبره اللجنة تهديداً لوظيفة شركات الاستثمار.
على جبهة الشرق الأوسط، ترى بكين أن حرمانها من كميات النفط التي تحتاجها خلال السنوات العشر المقبلة يعني تعريض حركة النمو والانتعاش إلى انتكاسة اقتصادية كبيرة. صحيح أنها تملك احتياطات نفطية كافية للاستهلاك المحلي… ولكن الصحيح أيضاً أنها في حاجة ماسة لكميات إضافية تواجه بها ظروف المستقبل. ولم تكن الزيارة التي قام بها الرئيس تشي جين بينغ إلى دولة الإمارات العربية المتحدة سوى محطة من محطات الآفاق الجديدة لعمل مشترك. وقد أثمرت هذه الزيارة توقيع 13 اتفاقية ومذكرة تفاهم لتعزيز الشراكة الاستراتيجية. وكان لا بد من الإشارة أثناء المحادثات إلى أول زيارة قام بها المؤسس الراحل الشيخ زايد بن سلطان إلى الصين قبل 28 سنة.
وكان الرئيس تشي جين بينغ قد افتتح الدورة الثامنة للاجتماع الوزاري لـ «منتدى التعاون الصيني- العربي» بحضور أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، وأمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، ووزير خارجية السعودية عادل الجبير. سنة 2004 تأسس «منتدى التعاون الصيني- العربي» ليتحول سريعاً إلى إطار واسع للتعاون على مختلف الأصعدة، الثقافية والديبلوماسية والتجارية.
ومع أن الرئيس تشي كان قد طرح مبادرة «الحزام الاقتصادي لطريق الحرير»، إلا أن المنتدى قام بخطوات إيجابية ساعدت على توسيع حلقة التعاون الاقتصادي والاجتماعي.
سنة 2013 تولى تشي جين بينغ مقاليد الحكم في الصين مدشناً عهده بإطلاق مبادرة واسعة تعمل على ربط بلاده بأكثر من 120 دولة في العالم. وقد توخى من وراء هذه المبادرة ترسيخ الاستقرار والمشاركة الواسعة، إضافة إلى الشؤون السياحية والثقافية والاجتماعية. وبفضل هذه المبادرة المتطورة قفز حجم التجارة بين الصين والدول العربية من مئة بليون دولار سنة 2008 إلى مئتي بليون دولار سنة 2017.
وبعكس ما فعله فلاديمير بوتين الذي حصر وجوده في الشرق الأوسط بإنقاذ بشار الأسد، تعمّد شريكه العقائدي السابق استخدام نفوذه الاقتصادي لمساعدة دول المنطقة على إنقاذ نفسها!