Site icon IMLebanon

هواجس انزلاقٍ إلى خندقٍ غميق!

 

 

عندما ينقشع تماماً دخانُ القنابل المسيلة للدموع- يوماً ما- سينجلي الكثير من غموض الحوادث الجارية في ليالي بيروت، التي جرى «إحياؤها» أخيراً، وقد يجري إحياؤها أيضاً. والمهم ألاّ يكون قد فات القطار حينذاك…

 

ليس واضحاً ما الذي تغيَّر، منذ 17 تشرين الأول، حتى بدأ مشهد الشارع ينزلق نحو العنف. فكأن هناك مَن يريد الانتقام من «حضارية» الانتفاضة، وإلحاقها بنماذج المواجهات البشعة، ذات الطابع الطائفي أو العشائري، التي عرفها لبنان سابقاً والشائعة اليوم في العديد من بلدان الشرق الأوسط.

 

 

 

كان في المشهد شباب وشابات يهتفون للحرية والحداثة والشفافية. وعندما حاول زعران الأزقّة إقحام أنفسهم، تصدّى لهم الجيش وطردهم. وأما اليوم، فواضحٌ أن هناك مَن يَضرب هذا المشهد، بافتعال المواجهات وتسميم الشعارات والمناخات والأهداف.

 

 

 

وفي صريح العبارة، يتنامى الخوف مِن تَحَوُّلِ الثورة إلى فتنة. وغالباً، في تاريخ لبنان، تبدأ الفتَنُ بثوراتٍ اجتماعية. ولذلك، المسؤولية الملقاة اليوم على عاتق الانتفاضة تكمن هنا، خصوصاً: أن تحمي نفسها أولاً لتتمكن من البقاء، ومن ثم استكمال المسيرة نحو الأهداف.

 

 

 

والمؤشرات التي تثير المخاوف من فتنة هي الآتية:

 

 

 

1- بدء تظهير الخطاب الفتنوي مذهبياً، على ألسنة مجموعات ملتبسة الهويات السياسية ومجهولة الأهداف.

 

 

 

2- تجري المواجهات في مناطق تماس بين مناطق ذات أكثريات سكانية مختلفة طائفياً أو مذهبياً، وتذكِّر بالحرب الأهلية («الرينغ»، الخندق الغميق، الشياح- عين الرمانة…)

 

 

 

3- لم تُظهرالقوى السياسية المعنية مواقف حازمة، تطالب بقمع الفتنويين هنا وهناك. وهذا ما يوحي أنّهم إما يتمتعون بتغطيتها، وإما بغض طرفها لغايات في نفوس بعضهم.

 

 

 

4- إرتباك القوى العسكرية والأمنية في التعامل مع المواجهات. فهي في الواقع «تُداري الوضع» لئلا تصطدم بأحد. وهي لا تعرف التمييز بين الحراك الشعبي ومثيري الشغب والفتنة.

 

 

 

5- ازدياد منسوب العنف في سلوك جهات عدّة.

 

 

 

واجتماع هذه العناصر يثير الخوف من بلوغ الفتنة. وبرميل البارود الذي يهيئ للانفجار في أي لحظة هو فقدان الأفق السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وعموماً، يعبِّر العنف عن مأزق في السياسة أو الاقتصاد، تكون له تداعيات اجتماعية خطرة. فيأتي العنف مَخرجاً من هذا المأزق… إلى حالٍ أفضل أو أسوأ.

 

 

 

ولطالما كان لبنان يُستثمَر ساحةً للصراعات الأمنية والعسكرية، الإقليمية والدولية. فالمواجهات والحروب الأهلية فيه كانت دائماً، إما رسائل متبادلة في الصراعات الكبرى، وإمّا تصفية حسابات على أرضه. ودائماً، وجدت القوى الدولية وكلاء لها على الساحة الداخلية يقومون بالدور المطلوب منهم.

 

 

 

ظاهرياً، تبدو الحروب اللبنانية، وكأنّها نتيجة لاحتقان سياسي بين قوى محلية. ولكن، في العمق، لا يمكن أن تندلع الحرب في لبنان وتستمرّ، إلّا بضوء أخضر أو بطلب من القوى الخارجية.

 

 

 

ولذلك، عندما تتدخّل القوى الخارجية لتسهيل الصفقات والمصالحات والاستحقاقات في لبنان، يكون ذلك تعبيراً عن اتفاق في ما بينها يشمل الساحة اللبنانية، ويقوم الوكلاء أنفسهم أيضاً بالتنفيذ.

 

 

 

فعلى اللبنانيين أن يخافوا عندما تأتي التسويات نتيجة توافقات بين إيران والولايات المتحدة والسعودية مثلاً، لأنّ بعض القوى الخارجية التي توحي لوكلائها اللبنانيين بالتوافق في لحظة معينة، هي نفسها ستوحي لهم بأن يختلفوا ويتقاتلوا عندما تقتضي مصالحها القيام بذلك.

 

 

 

وهذه المعادلة تنطبق على الأزمة السياسية والاقتصادية القائمة اليوم. ففي الشهر الأول من الانتفاضة، كان ممكناً أن تتمّ التسوية بمحض إرادة لبنانية، لو تجاوبت قوى السلطة مع الحراك الشعبي، ولكانت هذه التسوية قد تمّت بأقل الأضرار. لكن التجاهل والمماطلة جعلا المسألة أكثر تعقيداً وأتاحا المجال لدخول قوى خارجية على الخط، على الأقل من باب الوساطة.

 

 

 

والمشكلة اليوم هي أنّ أي سخونة في صراع المحاور الإقليمية والدولية ستنعكس مزيداً من التأزيم الداخلي. وفي العادة، لا يمكن استبعاد العامل الأمني عن العامل السياسي في لبنان.

 

 

 

لكن الأشدّ خطراً هو العامل الثالث، الاقتصادي، الذي يطلّ بأشرس تجلياته، وكما لم يظهر في أي يوم مضى، حتى خلال حرب 1975-1990.

 

 

 

المشكلة أنّ العبور من الاحتقان السياسي إلى الانفجار الأمني سيمرّ أولاً وحتماً بالانهيار المالي- الاقتصادي، الذي باتت كل مقوماته جاهزة، وستكون تداعياته الاجتماعية قاسية. فهذا المناخ مثالي للعنف والقلاقل الأمنية.

 

 

 

ومرّة أخرى، يصبح مفيداً التفكير في ما سمَّته «مجموعة الدعم» في اجتماعها الأخير في باريس «الانهيار الفوضوي» في لبنان، إذا لم تتشكّل الحكومة التي توحي الثقة للبنانيين والمجتمع الدولي.

 

 

 

فالانهيار قد يكون منظَّماً. وحينذاك، يسهل التعافي منه، كما جرى في اليونان مثلاً. وأما «الانهيار الفوضوي» فسيكون صعباً الخروج منه، وسيحتاج الأمر إلى جهود وتضحيات ووقتاً طويلاً.

 

 

 

و«الانهيار الفوضوي» قد يبدأ مالياً- اقتصادياً- اجتماعياً، ولكن ما الذي يضمن ألا ينتهي أمنياً أيضاً؟

 

 

 

يجدر التأمل عميقاً في ليالي بيروت الأخيرة، «ليالي بيروت الحزينة». حذارِ انزلاق الجميع تدريجاً إلى هاويةِ المواجهة الأهلية. حذارِ السقوط في «خندقٍ غميق»!