Site icon IMLebanon

إحتلال لن يعود

 

كانت المرّة الأولى التي نسمع فيها بكلمة «راجمة»، والمرّة الأولى التي نسمع فيها أصوات صواريخ متتالية، في العام 1976 كانت الحرب بالنسبة لنا قصفاً بمدافع الهاون اعتدناه كان قد مضى عام على اندلاع الحرب الأهليّة، الملاجىء لم يعد فيها موطىء قدم في بيروت الغربيّة، السوريّين يقصفوننا بعنف، والحصار على أشدّه لا طحين لا خبز لا أفران، أذكر ذاك الرغيف الذي أبكاني، في ذاك اليوم وصل بيك أب محمّلاً بشوالات الطحين، اشترى أبي كيساً وحمله إلى المنزل، لا قوارير غاز في بيروت، وعلى بابور الكاز بدأ الخبز ، وقفتُ طفلة تكتشف لأول مرّة أنّ الخبز واحدة من نِعَمِ الله على عباده، ناولتني أمي رغيفي المنتظر، شعرتُ بطعم الكاز في فمي، بكيتُ كثيراً وأدركت أن رغيف الخبز بعيد المنال!

 

بطعم الكاز فهمتُ معنى دخول جيش الاحتلال السوري إلى لبنان، وفهمتُ إجرامه أكثر في العام 1978 خلال حرب المئة يوم على الأشرفيّة، من شرفة مطبخ جدّتي كنتُ أجلس لساعاتٍ وأرى برج رزق في الأشرفيّة ونيران الراجمات السوريّة تدكّ منطقة جديدة من بيروت، يزداد احمرار الصواريخ ليلاً، مئة يوم أمضيتُ معظمها أشاهد الصواريخ تدكّ الأشرفيّة، بعد هذه الحرب بتُّ أفهم جيّداً معنى كلمة احتلال، وحجم الإجرام الذي تبذله أي قوّة إحتلال لإذلال النّاس وسحقهم.

فهمتُ مبكّراً كيف يسخرون من الأرزة رمز لبنان، قالها لي مرّة جدّي السّوري (عمّ أبي وزوج والدته) رحمه الله، الذي عاش ومات في لبنان منذ مطلع شبابه والذي لم يزر بلده حمص سوى مرّة واحدة في عمره الطويل عندما فر بجدتي إلى هناك، ووجدناها تعود ليلاً تحت الصواريخ إلى لبنان بعد أسابيع ثلاثة إلى بيروت، لتقول لنا «جحيم بيروت ولا جنّتهن»، لم أكن قد تجاوزت الرابعة عشرة من عمري عندما خاطبني ساخراً «يا نرفت» ـ هكذا كان يلفظ اسمي ـ «على برنيطة الجيش السوري في نسر»، شعرتُ بنواياه «الزكزكيّة» التحقيريّة، فأجبته، وعلى رأس الجندي اللبناني أرزة، الأرزة عزّنا ورمزنا، قهقه ضاحكاً وقال لي: «هيدي أرنبيطة»، بعد اغتيال الرئيس الحريري بسنوات قليلة سخر النائب سليمان فرنجيّة من «الأرز» ورمزيّته للبنانيين، فقال عن ثورة الأرز «هيدي ثورة الأرنبيط»، نفس اللغة ألم يربى صغيراً في أحضانهم!

ثلاثة عشر عاماً على انكشاح جيش الاحتلال السوري عن لبنان وشعبه، أخذوا معهم صورهم ويافطاتهم ومجسّماتهم التي ظننا طويلاً أنّ لبنانيين رفعوها في أمكنتها، فإذ بنا نكتشف أنّهم من زرعوها في عيوننا شوكة «تاريخ وجغرافيا» و»مسار ومصير»!

بالأمس قرأت عن مخاوف من تسلّل رجال بشّار الأسد إلى لبنان عبر بوابة الانتخابات النيابيّة، هذه المخاوف معيب أن تطرح اليوم بعدما أخرج اللبنانيّون في يوم 14 آذار التاريخي في العام 2005 جيش الاحتلال السوري على مرأى من شاشات العالم بالهتاف، كان بشّار الأسد المجرم يأمل أنّ هناك فريق في لبنان سيخرج ليتمسك بوجود جيشه، وهذا الفريق كان موجوداً وحاول بكلّ قدرته وحشوده في 8 آذار أن يصرخ بحياة بشار الأسد الذي يفديه بالرّوح والدّم، إلا أنّ الشعب اللبناني أجبر المجرم بشّار على سحب جيشه عندما بعثر حتى ماء وجه بشار الجزّار على مرأى من العالم، فكان خطابه الشهير الذي أعلن فيه انسحاب جيشه المحتلّ من لبنان.

لا عودة للأسد ولا لجيشه إلى لبنان، «خلّيه يهدّي» في سوريا رئيساً، عاجلاً أم آجلاً، وبالكثير ثلاث سنوات حتى تنتهي ولايته الرئاسيّة الثانية، وجوده سينتهي في سوريا، وليس هناك من داعٍ أن يقلق البعض اللبنانيين ويشوّش عقولهم بمحاولات بشّار التافهة أو ادّعاء أنّ هناك محاولات تأثير بشاريّة في السياسة اللبنانيّة، ببساطة «زمان الأوّل تحوّل»، هذا الاحتلال لن يعود يوماً إلى لبنان، «طويلة عرقبتو ورقبة زلامو»، وسيأتي يوم نحتفل فيه بإقرار تاريخ 26 نيسان يوم جلاء جيش الاحتلال السوري عن لبنان، مهما تأخّر هذا اليوم ومهما منعوا إقراره، لبنان باقٍ والاحتلال وجيشه وحلفاؤه إلى زوال، في النّهاية لا يصحّ إلا الصحيح.