يحتفظ «حزب الله»، وفق معارضيه بقاموسٍ ضخم من التناقضات الناتجة عن هذا الخلط المتعمّد بين الواقع والدعاية المنفوخة بهدف الحفاظ على هيبة سلاحه وولاء جمهوره وقدرته على التفاوض وتغليف الصفقات التي تتضمّن تنازلات كبرى بغطاء الإنجازات والانتصارات كما حصل في صفقة ترسيم الحدود البحرية مع «إسرائيل» والتي كان من عجائب الأقدار أنّ اتفاق السابع عشر من أيار سبق له أن أعطى لبنان أفضل بكثير مما أتى به سلاح «الحزب» في الاتفاق الذي كرّس هدنة طويلة المدى مع الكيان الإسرائيلي.
اللافت في خطاب قيادات «الحزب» أنّه منذ انتهاء حرب تموز 2006 وبدء تطبيق القرار 1701 تتعالى الصرخات لاقتحام الجليل بالقوة العسكرية، وهو من أكثر الشعارات شعبية لدى جمهور «حزب الله» وهو تهديد كرّره «الحزب» منذ اغتيال القيادي عماد مغنية في العام 2008، وشدّد عليه الأمين العام للـ»حزب» السيد حسن نصرالله في العام 2011 عندما توجّه إلى «مجاهدي المقاومة الإسلامية» بالقول «كونوا مستعدين ليوم إذا فرضت فيه الحرب على لبنان قد تطلب منكم قيادة المقاومة السيطرة على الجليل، أي بتعبير آخر تحرير الجليل».
المستغرب في المقابل أنّ «الحزب» يتنازل عن «المقاومة» في أيّ خطاب أو تحرّك جدّي يخصّ الأراضي اللبنانية المحتلة في الغجر ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا، فمواقفه لا تتضمّن أيّ كلام عن التحرير بقوة السلاح، بل دائماً ما يكون إلقاء المسؤولية على الدولة، تماماً كما فعل نصرالله في خطابه الأخير بمناسبة بدء حرب تموز عندما اعتبر أنّه «لا يجوز السكوت على موضوع الغجر. وسبق للدولة أن تساهلت في مراحل سابقة مع أخذ الوضع الإنساني لسكان البلدة ولكن الآن يجب أن يكون الموقف اللبناني حاسماً بأنّها أرض لبنانية ويجب أن تعود بلا قيد ولا شرط ويجب العمل على تحريرها بالتكامل بين الدولة والمقاومة الذي أدّى للنجاح في ترسيم الحدود البحرية».
بعبارة أخرى لن يستخدم «حزب الله» القوة العسكرية لتحريك ملف الغجر أو غيرها من الأراضي التي يعتبرها لبنانية رغم أنّها موضع نزاع حتى مع سوريا والحديث هنا عن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وسيلجأ إلى التحريك الميداني الخفيف والضغط السياسي على الحكومة لاستغلال الملف على المستوى الإقليمي والأهمّ على المستوى الداخلي والدليل الأبرز على ذلك غياب الاستنفار والجهوزية القتالية لدى الحزب.
عندما يريد الحزب التفاوض والتهدئة يتحدث عن دور الدولة أمّا عندما يريد المزايدة وتجييش البيئة الشيعية فهو يتحدّث عن استخدام القوة لاقتحام الجليل مع إعلاء صورته القادرة على اجتياح الحدود وبأنّه قادر على هزيمة الكيان الإسرائيلي… والكلّ يعلم أنّ حربه لاقتحام الجليل فقاعات إعلامية للاستهلاك وأنّه لو كان جدّياً في ادّعاء التحرير لوضع التسخين الفعليّ على الحدود ولكان دعا مقاتليه للاستعداد لاقتحام مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وحتى الغجر.
إذا أردنا مقاربة هذا الملف من منطلق الشرعية الدولية والقانون والمنطق، فإنّ تركيز فئة من المواطنين على تحرير أرض محتلة للبلد الذي ينتمون إليه، هو فعل منطقي، بغضّ النظر عن شذوذ حالة «حزب الله» عن الدولة ومنطقها وانتظامها العام، لكنّ لهذه المطالبات وجهاً من المصداقية والشرعية والاعتبار، ولو أنّ الحزب أعطى هذا المسار كامل قوّته لربما اكتسب احتراماً حتى لدى خصومه لأنّه لا يرفض تحرير الأرض إلا متخاذل موصوم بصفة الخيانة.
لكنّ المفارقة العجيبة هي أنّ «حزب الله» يستعمل الرخاوة وحتى الميوعة في التعامل مع ملف الغجر والمزارع والتلال، بينما يتشدّد شكلياً عندما يتعلّق الحديث بفلسطين والجليل.
أمّا السؤال الأكثر واقعية فهو: لماذا التهديد باقتحام الجليل وليس باقتحام ما يعلن «حزب الله» أنّه أراضٍ لبنانية محتلة؟
الواضح أنّ التناغم على طرفي الحدود هو السائد وقد رسم «الوسيط» الأميركي قواعد الاشتباك ونحن سنكون بانتظار كاريش برية بمواصفات الالتباس والغموض وتبادل المغانم على حساب الدولة وحقوق اللبنانيين، لكن مع مفاجأة قد تصدم البعض وهي احتمال رفض أكثرية أهالي بلدة الغجر، وهم من العلويين، العودة إلى السيادة اللبنانية نظراً لاعتبارات كثيرة، منها رفض الخضوع لهيمنة سلاح «الحزب» أو لعوامل أخرى ستظهر عندما تقترب ساعة الحسم.