لم يكن لبنان بحاجة إلى اختبار جديد يكشف عن هشاشة الحال وسوء الوضع الذي أصبح عليه وعن حجم الأزمة التي باتت تخنقه حتى يدخل مجدداً في مغامرة القمة الاقتصادية العربية التي طوت بالأمس واحدة من أفشل محطاتها ليس على مستوى هذه القمة فقط، بل وعلى مستوى المؤتمرات العربية عبر تاريخها.
وفشل هذه القمة (ونطلق عليها هذه التسمية مجازاً) لم يكن فقط بسبب إمكانات وقدرات اقتصادية ولوجستية، بل كانت مؤشرات هذا الفشل تلوح في أفق المشهد اللبناني الداخلي منذ أشهر عدة، شهدت فيها دهاليز (الطبخة السياسية) في بيروت صدامات واشتباكات ومقايضات (من فوق الطاولة وتحتها)، تدور رحاها ما بين بعبدا وعين التينة والضاحية من جهة وبين طهران من جهة أخرى، لدرجة بات المراقبون داخل الجامعة العربية وخارجها وإلى ما قبل القمة بأيام يترقبون بياناً يصدر في أي لحظة بتأجيلها أو إلغائها.
كان المشهد مؤلماً حزيناً، والشارع اللبناني يصيح عبر شاشات التلفزيون ويطالب بإلغاء القمة وتحويل بنود تجهيزاتها لنظافة شوارع بيروت وتعبيد طرقاتها ورفع نفاياتها، في الوقت الذي تفرّغ فيه ساسة لبنان بشقه الأول القسري (نصف الشرعي) أو بشقه الثاني المختطف لكامل الشرعية وسيادة الدولة في الضاحية، تفرغوا لجدلية ومقايضات لا تخدم سوى أجندات كل فصيل، ووفق إملاءات طهران ودمشق عبر أتباعهم، بحيث اختزل ساسة لبنان القمة في ملفي عودة سورية وإقصاء ليبيا، دون اكتراث لما عدا ذلك، وهو ما وضح جلياً لدى تيار رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، الذي كان يعيش نشوة كبرى بتحقق هدفه وهو يرى الكرسي الليبي فارغاً بعد حملة ممنهجة لإقصاء الحكومة الليبية، لتحقق ما لم تتمكن من تحقيقه في ٢٠٠٢ عندما كان وفد القذافي يمثل ليبيا في المقاعد المجاورة لوفد لبنان بقيادة رفيق الحريري.
وكعادة فرقاء الانقسام والتأزيم في بيروت، يتجاهلون بعمد الأسباب الرئيسية التي تقود مراكب لبنان صوب عواصف مدمرة لا نهاية لها، عطلت الحياة الاقتصادية والتنموية والسياسية، وتحول لوطن عاش بلا رئيس جمهورية طوال عامين (قبل انتخاب عون) ليعود اليوم عاجزاً عن تشكيل حكومة منذ سبعة أشهر.
الأغرب أن يتساءل ويستغرب قصر بعبدا عن الغياب الكبير للقادة العرب، من دون أن يتذكر فقط أن المشكلة ليست في بيروت، ولكن فيمن يحكم بيروت.. كان على قادة لبنان وأحزابه وميليشياته وعلى «باسيله» أن يدركوا تماماً أن بيروت اليوم التي رفض زعماء الدول العربية الحضور لقمتها هي بيروت نفسها التي شهدت واحدة من أنجح القمم العربية في ٢٠٠٢ وبحضور لافت لزعمائها، وكان عليهم ببساطة تامة أن يدركوا السبب الحقيقي الذي أوصل لبنان لهذه الحال المهينة، بعد أن اختطف من الحضن العربي للعباءة الإيرانية، ليتجسد ذلك جلياً في مشهد طريق وفود القمة الاقتصادية من مطار «حزب الله» للفندق تحت أعلام إيران و«حزب الله» وصور خميني وخامنئي وسليماني ونصرالله.
خيوط القمة وأجنداتها وكواليسها كانت تدار من طهران منذ أشهر، فمن هناك صدرت الأوامر الأولى بتوزيع الأدوار والمهمات والملفات، ومن هناك صدرت آخر الأوامر لأمير قطر بالتوجه الفوري لحضور القمة.
صحيح أن القمة الاقتصادية العربية لا توازي في حجمها وأهميتها القمة العربية الدورية، ولكنها كانت كفيلة فعلاً بأن تطلع اللبنانيين على الحال التي آلت إليه بلادهم «المحتلة»، وأن تبين لهم الثمن الباهظ الذي دفعته وستدفعه مقابل ولائها للعمائم السود ومن يعمل تحتها.. ويسير تحت ظلالها.