Site icon IMLebanon

13 تشرين لن يكون ثانياً: أعيدوا حساباتكم

منذ ربع قرن على الأقل، ومأساة لبنان انعكاس لمأساة تشرذم المسيحيين. ليس المقصود طبعاً تعدديتهم السياسية، وهي ظاهرة صحية. ولا المطلوب اصلاً أحاديتهم الصهرية خلف شخص ــــ حزب واحدين، وهو عارض مرضي قاتل. بل الصحيح أن لبنان عانى طيلة تلك الفترة من انقسام المسيحيين حيال الخيارات الوطنية الكبرى. من مسألة الهوية ووظيفة السلطة، إلى قضايا العلاقات مع الآخر في الداخل والخارج.

في النتيجة، والمزيد من التفصيل متروك للتاريخ، يمكن القول إن معظم الأزمة اللبنانية كانت انعكاساً للأزمة الكيانية المسيحية. فانقسام خياراتهم وجودياً، عامي 1989 و1990، ساهم بشكل حاسم في تمدد الاحتلال وقيام الوصاية. وانقسام خياراتهم حول كيفية مواجهتها لاحقاً، فضلاً عن تبعية بعضهم لها، أوجد الفراغ الكياني الذي ولد منه الخلل الميثاقي البنيوي الكبير طيلة عقد ونصف. ثم انقسام خياراتهم حول سلوكهم بعد جلاء الاحتلال وزوال الوصاية، خلق جوهر التحالف الرباعي، أو فلسفة الثأر من المارونية السياسية، بتأسيس مذهبية سياسية أخرى، تتبدل وتتقلب وتتناوب، بحسب موازين القوى وظروف الاستقواء بالخارج، بين سنية وشيعية، مع جعالة درزية دائمة، وانكشارية مسيحيين دائمين.

واستمر ذلك النظام الريعي قائماً حتى اللحظة. لم يشك منه أي من المستفيدين منه. ولم ينجح في وقفه المتضررون منه. وهذا ما يفسر سلسلة المواقف الفظيعة التي يمكن أن يطالعك بها الأرشيف، حين تستعرضه للأعوام العشرين الماضية. مواقف مذهلة، مرعبة، لكل الذين يتشدقون الآن بمصلحة الوطن والعيش المشترك والميثاق والنفاق والعهرالسياسي والبطر السلطوي. كلهم، من دون استثناء، ظهروا على حقيقتهم في تلك المرحلة. لحظة اعتقدوا للحظة، أن الزمن تأبّد وأن الشريك أبيد. فاستمر «الشغل ماشي» معهم من دون أي مشكل ولا إشكالات. حتى انفجرت المنطقة. وحتى سقطت سوريا وتشظّت حروب الفتن، ومعها خصوصاً الإرهاب العنقودي على كل الحدود وداخلها. عندها، وفقط عندها، اكتشفوا فجأة، وبعضهم شكلاً ولفظاً و»خدمات شفاهية» لا غير، ان على المسيحيين أن يتفقوا. اكتشفوا ذلك بخلفيات مختلفة. بعضهم أدرك أن اندثار المسيحيين سيجعل السنية والشيعية السياسيتين على تماس مباشر. أي أن يصير النظام بكل مؤسساته، في الحكومة والمجلس والإدارة، مرادفاً لخط تماس قصقص. فاكتشف ضرورة وجود الوسيط المسيحي، عامل امتصاص صدمات وصدامات على الأقل. بعضهم الآخر، اعتقد أنه بالحديث عن الوحدة المسيحية المفقودة، يحوّر الأنظار ويحوّل التركيز عن رهانه على الوقت، وعلى انتصار محور خارجي يجعله يجتاح البلد، أو أكثر من بلد. بعض ثالث، وجد نفسه عاطلاً متعطلاً في السياسة، عن المشروع والطرح والخطاب والرؤية. فالتقط أول شعار قرأه… وسارت الدُرجة: اتفاق المسيحيين هو الأزمة!

على مدى نحو سنتين، أتخمت آذان المسيحيين، سياسيين، مسؤولين، مواطنين علمانيين وروحيين ــــ وبعض هؤلاء أنفسهم ساهم في تلك المعزوفة ــــ بأن كل المشكلة الرئاسية والنيابية والحكومية وحتى الاقتصادية والاجتماعية والسيادية وغيرها من أزماتنا، تكمن في أن المسيحيين منقسمون، وأن عليهم الاتفاق، أو على الأقل التوافق حول مروحة خيارات، لتنطلق كل الحلول… وكأنها كانت «الشرطية المستحيلة»، كما يسميها علم المنطق الفلسفي، ما كانوا يراهنون عليه. أي الرهان على استحالة اتفاق كهذا. ما يفتح الباب للاستثمار فيه مجاناً، ومن جيوب المسيحيين وووجودهم وحضورهم. وحتى من جيب تذنيبهم وتجريمهم، بمعاني الذنْب والذنَب، والجرم والجريمة…

فجأة اتفق المسيحيون، فظهرت الفضيحة. فجأة اجتمع المسيحيون. اتفقوا على آلية أولية لاختيار رئيس (وللحرصاء والخبثاء، تتم بلورتها لتصير أمراً عملانياً مفصلاً). اتفقوا على تصور مبدئي لقانون انتخاب ميثاقي حقيقي. واتفقوا على إطار منهجي لمقاربة الشركاء والجيران. رسموا على الأقل رؤيتهم المرجعية لشؤون الوطن والدولة. فوقعت الكارثة: هجوم عنيف من حيث لم يكونوا يتوقعون. حملات، بعنوان وبلا عناوين، بمضمون وبلا مضامين، لضرب الحدث. ممنوع اتفاقهم. ممنوع تلاقيهم. كأن ثمة من استبطن واستدخل طبيعة ثانية في السياسة والنظام والحياة، عنوانها العيش على اقتسام حقوقهم، والاعتياش من ذميتهم وذمييهم، وإقرار التسويات المافيوية بين المتسلطين، بعملة فتات دورهم ومواقعهم. كل هذا سقط فوراً. حتى ظهرت الوجوه على حقيقتها. متضررون من كل ميل، ومن كل صوب. نقزة لدى الجميع. ورد فعل بوليسي على طريقة فبركة التحريض وتحريك الأحقاد ورمي الصغائر والصغار.

كلهم فضحوا وكشفوا. وليس ما حصل في التعيينات وما حولها من مزايدات وتخرصات وتفاهات، إلا الدليل على ذعرهم. سقطت أقنعة كيانية البعض، وميثاقية البعض الآخر، ودستورية ومؤسساتية البعض الثالث. استعادوا كلهم بطاقات الانتساب إلى محفل أيتام أبو يعرب وأبو عبده لا غير.

وحدها الحلقة الضيقة المتكونة حول سعد الحريري ظلت خارج هذه المسخرة. حتى أنها صارت على ما يبدو بين نارين. نار صديقة في الظهر بمؤامرة الخيانة، ونار الخصوم في الصدر بحجة عدم الإيفاء بالتعهدات والالتزامات. قد لا يكون الحريري الشاب مدركاً لعمق التبدلات الحاصلة في لبنان في غيابه. لكن مسؤولية حلقته البيروتية كبيرة جداً في هذا السياق. فالحقائق بدأت تظهر. لا فيتو سعودياً على أحد الآن. كل المأزق القائم حالياً، منبثق من عدم جرأة أصحاب النيات الطيبة، مقابل وقاحة الآخرين. لم يعد الوقت للمجاملات. مصير الجميع على المحك الآن. لا مزاح ولا تجارب ولا ألاعيب. عليكم مسؤولية كبرى. فالشريك لن يتراجع ولن يستسلم. 13 تشرين لن يكون ثانياً. أعيدوا حسابات الظروف والمواقف والمواقع، وأعيدوا حساباتكم.