Site icon IMLebanon

أهمية دور “نواب 17 تشرين” وخطورته

 

 

أثبتت التجربة اللبنانية الطويلة انّ لبنان بحاجة الى كتلة سياسية مستقلة ومحصّنة تمثِّل بُعداً واحداً داخل النظام السياسي وهو البعد الوطني بالتوازي مع أحزاب الطوائف التي تمثِّل البعدين الوطني والطائفي، فهل سيتمكّن «نواب 17 تشرين» من لعب دور الحاجز بين أحزاب الطوائف والجسر في الوقت نفسه سَعياً لكسر الحواجز أمام قيام الدولة؟

التركيبة البنيوية العميقة للبنان هي تركيبة طوائفية متجذّرة في أعماق التاريخ اللبناني ولم تفلح كل محاولات تذويبها من خلال طروحات تتلطّى بالقومية والعروبة وإلغاء الطائفية والعددية سعياً إلى إلغاء التعددية اللبنانية، وفشل التذويب مَردّه إلى سببين: السبب الأول خوف الطوائف على وجودها في بلد غير مستقر ومنطقة مضطربة جعلتها تحافظ على حضورها وتقاليدها وطقوسها وبنيتها، والسبب الثاني لإدراكها انّ هناك من يعمل ويريد إلغاء هوية لبنان وطبيعته من أجل ان يتفرّد بحكمه.

 

ولم يستوعب البعض بَعد انّ إلغاء الطائفية لا يمكن ان يتحقّق في زمن الحروب الساخنة والباردة، لأنه في هذا الزمن تَنغلق الطوائف على ذاتها وتتشدّد في طروحاتها، إذ بقدر ما تنزلق البلاد إلى عدم الاستقرار، بقدر ما تشعر بالخطر على وجودها، وبقدر ما يترسّخ الاستقرار، بقدر ما تخفِّف من القيود حولها وتزيد من انفتاحها.

 

ولم تشكِّل الأحزاب غير الطائفية صمّام أمان كونها انخرطت في الصراع الطائفي في الحرب تبعاً لخلفيتها الإقليمية واليسارية، وقد أثبتت هذه التجربة فشلها الذريع. والانقسام الطائفي لم يكن وجهه الوحيد الصراع على السلطة، إنما وجهته الأساسية المواجهة حول معنى لبنان ودوره وحياده وتَموضعه ضمن الشرعيتين العربية والدولية، والصراع ما زال هو نفسه، ولكن القوى الأساسية المتصارعة هي أحزاب الطوائف، وهذا ما كان ينطبق مثلاً على المواجهة بين 8 آذار وعمودها الفقري مسيحي-شيعي، و 14 آذار وعمودها الفقري مسيحي-سني-درزي، والخلاف كما دائماً حول خيارات ومشاريع تتعلّق بهوية لبنان، فيما الرأي العام الـ»14» آذاري لم يتمكّن من تشكيل نواة تمثيلية مستقلة عن الجسم الطائفي الثلاثي المكوِّن للحركة الاستقلالية.

 

وفي كل مرة يَشتد فيها الصراع السياسي تأخذ ترجماته أبعاداً طائفية، والأمثلة عديدة من حوادث 1958، إلى حرب العام 1975، وصولاً إلى أيار 2008. وتجنيب البلد التقابُل الطائفي يكون من خلال تَوصُّل الطوائف إلى اتفاق على غرار ميثاق العام 1943 ووثيقة الوفاق الوطني في العام 1989، وفي ظل العجز عن إبرام تسوية من هذا القبيل لا بدّ من التفكير بالاقتراحات التي تُبقي الصراع في إطاره السياسي، وتَدفع قدماً باتجاه مشروع الدولة الذي وحده يضمن الاستقرار.

 

وعلى رغم أنّ خطاب أحزاب الطوائف عابِر للطوائف ويتعلّق برؤيتين ومشروعين للبنان، إلا انّ بنية هذه الأحزاب طائفية بامتياز، ما يعني انه في كل مرة يرتفع فيها منسوب التصعيد والتعبئة والانقسام ترتفع الخشية من انتقال المواجهة من الحَيّز السياسي إلى الطائفي، ولا بدّ في هذا السياق من الإشارة إلى خطأين قاتلين:

 

الخطأ الأول يرتكبه بعض نواب 17 تشرين وثوارها الذين يشكلون امتداداً للمدرسة السياسية نفسها التي تعتبر انّ الطائفية هي سبب الأزمات المتناسلة في لبنان، وخطورة هذا المنطق انه يُضعف الطوائف غير المسلحة ويُقوّي الطائفة المسلحة، وهذه الطروحات تخدم «حزب الله»، خصوصاً انّ مرجعيات الحزب الدينية والزمنية تتحدّث باللغة ذاتها كَون العائق أمام تمدُّد مشروعها وتسيُّده هي الطوائف، وبالتالي تحرِّض على الجانب الطائفي من أجل إزاحة الحواجز أمام مشروعها الطائفي.

 

وهذا الخطأ إمّا هو مقصود تنفيذاً لأجندة «حزب الله»، وإما هو بريء نتيجة سذاجة سياسية ومزايدة بالمدنية والعلمانية، فيما لوائح الثورة التي نجحت في إيصال عدد لا بأس به من النواب ونالت نسبة مرتفعة من الأصوات التفضيلية مطالبة بالحفاظ على البنية الطائفية وأحزاب الطوائف من أجل توظيفها كعنصر توازن في مواجهة «حزب الله»، وذلك ليس فقط لأنّ هذه الشريحة الثورية غير قادرة مُنفردة على مواجهة مشروع الحزب المغيّب للدولة، وهي بحاجة الى تعاون أحزاب الطوائف المؤمنة بالدولة معها، إنما لأن إضعاف الأحزاب الأخيرة يؤدي إلى استفرادها من قبل الحزب وتطويقها والقضاء عليها.

 

ومن الضروري التوقّف سريعاً أمام ثلاثة أمثلة: لولا أحزاب الطوائف لكان نجح مشروع الدولة البديلة في مطلع الحرب اللبنانية، ولولا أحزاب الطوائف لكان الجيش السوري ما زال في لبنان وتحوّل الأخير إلى محافظة سورية، ولولا أحزاب الطوائف لكان أصبح لبنان تحت حكم «حزب الله». وبالتالي، من الخطيئة بمكان إضعاف البنية الطائفية التي تشكل مناعة في مواجهة المشاريع التي تريد تغيير هوية لبنان.

 

وهل إلغاء الطائفية مثلاً يعالج أزمة سلاح «حزب الله» ودوره الإقليمي؟ بالتأكيد كلا. وهل إلغاء الطائفية كان سيؤدي إلى خروج الجيش السوري من لبنان؟ بالتأكيد كلا. وهل إلغاء الطائفية كان سيؤدي إلى إسقاط الدولة البديلة؟ بالتأكيد كلا، والسبب بسيط لأنّ الانقسام بجوهره وعمقه سياسي بامتياز، ولكن ترجماته غالباً طائفية.

 

وانطلاقاً من كل ذلك، فإنه من الخطيئة التصويب على البنية الطائفية التي تشكل حصناً في مواجهة المشروع الذي يُغيِّب الدولة، فيما كل التركيز يجب ان يبقى على جوهر الأزمة وهو اليوم سلاح «حزب الله».

 

الخطأ الثاني ترتكبه بعض أحزاب الطوائف التي تريد إمّا ان تحتكر التمثيل النيابي وتضع نفسها في مواجهة مع ثورة على غرار 17 تشرين، وإما انها تخشى على نفسها من ثورة من هذا النوع، ولم تكن لتخشى لو كانت محصّنة بما فيه الكفاية، فيما المتضرِّر الأول والأكبر من ثورة مثل 17 تشرين هو «حزب الله» بسبب قدرتها على اختراق بيئته تحت عناوين معيشية ومالية واقتصادية، ولا يمكنه بسهولة التحريض عليها، فيما بإمكانه بسهولة تامّة التحريض ضد 14 آذار وأحزاب الطوائف بذرائع انها «أدوات أميركية للنيل من سلاحه ومقاومته وإضعاف دور الشيعة».

 

وقد دَلّت التجربة الى انّ أحزاب الطوائف غير قادرة على اختراق بيئة «حزب الله»، وان حدود قوتها تقف عند حدود مناطق نفوذ الحزب، فيما نجحت ثورة 17 تشرين باختراق بيئة الحزب والدخول إلى مناطِقه وعَرينه، ما يعني انّ ما عجزت عنه انتفاضة آذار نجحت في تحقيقه انتفاضة تشرين، الأمر الذي يجب ان يشكل مصدر ارتياح لا قلق لأحزاب الطوائف، ولا بل عليها العمل باتجاهين: الاتجاه الأول ان تواصل تعزيز وضعها وبنيتها وتنظيمها، لأنه بقدر ما تضعف، بقدر ما يستقوي الحزب، وبقدر ما تَقوى، بقدر ما تشكّل توازن الرعب المطلوب معه. والاتجاه الثاني ان تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تعزيز قوة هذه المساحة التي تستمد قوتها من لا طائفيتها لثلاثة أسباب أساسية:

 

السبب الأول، لأنّ اي خيار شيعي ثالث يُحارب بسهولة في حال كان يتحصّن بتحالف سياسي مع أحزاب طوائف أخرى، فيما تصبح مواجهته أكثر صعوبة في حال استمَدّ قوته من البيئات غير الطائفية.

 

السبب الثاني، لأنّ رفض «القوات اللبنانية» مثلاً بأن تبقى وزارة المالية مع الثنائية الشيعية خلافاً لاتفاق الطائف يمكن ان يوظِّفه «حزب الله» في سياق حقوق الطوائف وصلاحياتها، فيما رفض «نواب 17 تشرين» تخصيص الطوائف بحقائب وزارية التزاماً بالدستور يقطع الطريق أمام اي توظيف طائفي او مذهبي.

 

السبب الثالث، لأنّ المساحة المسمّاة مدنية تسقط تلقائياً في اللحظة التي تشعر فيها الناس انها أداة لمشروع «حزب الله» بمُسمّيات مختلفة على غرار سقوط الأحزاب القومية والشيوعية وما يسمى بالوطنية، وبالتالي بالقدر الذي تبقى فيه هذه المساحة ملتزمة بمشروعها قيام دولة، بقدر ما تبتعد عن «حزب الله» وتقترب من أحزاب الطوائف الأخرى التي هدفها الأول كسر الحواجز التي تُعيق العبور إلى الدولة القوية.

 

ولأنّ العمل المجدي يجب ان يتركّز على تحقيق المكاسب الوطنية بالجولات الواحدة تلو الأخرى وليس بالرهان على ضربة قاضية قد لا تأتي او مفاوضات خارجية مصيرها ليس بيد أحد، وذلك على غرار الانتخابات النيابية التي لم يكن أحد يتوقّع نتيجتها لجهة قدرتها على نقل الأكثرية من مكان إلى مكان آخر، فإن معادلة 8 و 14 آذار أعطَت ما عندها، والبقاء في هذه المساحة يقدِّم خدمة لـ»حزب الله»، ومن هنا ضرورة التقاطع المباشر أو غير المباشر بين أحزاب الطوائف العابرة للطوائف بخطابها والمؤمنة بمشروع الدولة، وبين «نواب 17 تشرين» الذين يرفعون عنوان الدولة، ومن دون هذا التقاطع لا أمل بمزيد من الجولات التي تصبّ في خانة تعزيز مشروع الدولة، وهذا التكامل بين الجهتين قوامه مزدوج: أن تُواصِل أحزاب الطوائف تحصين وضعها لإضعاف اختراقات «حزب الله» لطوائفها، وأن تُواصِل ثورة 17 تشرين اختراقاتها لبيئة «حزب الله»، فتكون محاصرته تمّت من داخل البيئة الشيعية من خلال جسم مدني، ومن خارج البيئة الشيعية من خلال أحزاب الطوائف، وهذا ما حصل بالفعل مسيحياً وسنياً ودرزياً من جهة، ومدنياً داخل الدوائر التي شكّلت معاقل لـ»حزب الله» من جهة أخرى. وهذا ما يجب، بالمحصلة، استكماله وتطويره وتعزيزه من خلال توزيع أدوارٍ مُتقن داخل الأكثرية الجديدة تحقيقاً لمزيد من الجولات على طريق قيام الدولة.