ضاق اللبنانيون ذرعاً بالأطراف السياسية والحزبية التي أمسكت بمفاصل البلد، وخلعوا عنهم الثقة الوطنية والشعبية، ونعتوهم بأبشع صفات الفساد والعجز والفشل، وحكموا عليهم بالإعدام السياسي، ورفعوا في إنتفاضة ١٧ تشرين ٢٠١٩ شعار «كلن يعني كلن»، تأكيداً للغضب الشعبي العارم من أداء المنظومة السياسية السيىء وتداعياته السلبية والمدمرة على البلاد والعباد.
يُراهن شركاء لبنان في الخارج على الإنتخابات النيابية المقبلة، لإحداث التغيير المنشود في البنية السياسية، وإحداث «خرق ما» في جبهة الطبقة السياسية، يُفسح المجال لإدخال دم شبابي جديد في الفضاء السياسي اللبناني، ويكون بداية تغيير جذري في التركيبة السياسية الراهنة التي أوصلت البلد إلى الإفلاس في الداخل، وإلى هذه العزلة العربية والدولية في الخارج.
طبعاً لا أسف على طقم سياسي سجلّ أفراده ملطخ بكل موبقات السلطة، وتسخير مقومات الدولة لمصالح أنانية وحزبية وفئوية، وغير قادر على إخراج الوطن وأهله من جهنم الأزمات المتتالية.
ولكن ما هو البديل السياسي الجاهز عشية الإستحقاق النيابي المقبل؟
عند إندلاع شرارة ١٧ تشرين قبل عامين ونيّف، سارعت الأكثرية الساحقة من اللبنانيين إلى الإنضمام لمسيرتها، لسلوك طريق التغيير الديموقراطي، السلمي والحضاري، وبقيت التجمعات والتظاهرات في بيروت ومختلف المناطق محافظة على قواعد الإنضباط والإنتظام العام، إلى أن قررت أطراف السلطة تقويض الحراك من الداخل، من خلال اندساس عناصر الشغب والتخريب في صفوف المتظاهرين، واستدراج قوى الأمن لمواجهات دموية خبيثة، أجهضت الإنتفاضة، وأخمدت جذوة الغضب والتغيير.
ولكن لا بد من الإعتراف بأن الإشكالات التي تحكمت بعلاقات شباب الثورة، قد ساهمت وإلى حد بعيد في إضعافها أيضاً، وفي تمكين أدوات السلطة منها.
لقد ارتكبت قيادات الحراك الخطيئة نفسها التي عجّلت بإنفراط عقد جبهة ١٤ آذار، حيث فشلت في التوصل إلى قيادة موحدة، ذات هرمية إحترافية، كما أخفقت في وضع برنامج سياسي موحد، يجمع المرتكزات الوطنية التي يلتقي حولها اللبنانيون، ويُحدد مسار الحركة الإستقلالية والإصلاحية، القادرة على تحقيق التغيير المطلوب في البنية السياسية.
يبحث الناس اليوم عن شباب الحراك لترشيحهم وتأييدهم في الإنتخابات النيابية المقبلة، فيجدون مجموعات من الشلل المتناسلة. يتنافس شبابها على ندوات وإجتماعات، سرعان ما يتحول الحوار فيها إلى نقاش سفسطائي، لا يبلور فكرة، ولا يصل إلى هدف، ويبقى يدور في دائرة «الأنا»، وما يحيط بها من شباب الشلة الذين لا يتجاوز عددهم العشرات.
الحماس الذي أبداه المغتربون للمشاركة في الإنتخابات لا يقل عن توق المقيمين في تحويل هذا الإستحقاق الدستوري إلى فرصة للتغيير الحقيقي في التركيبة السياسية، والتخلص من هذه المنظمومة الفاسدة والمفسدة، وتحرير الوطن من جلاديه وخاطفيه وناهبي ثرواته وخيراته.
لم يعد الوقت يعمل لصالح تيارات الإنتفاضة والتغيير لأن الإنتخابات أصبحت على الأبواب، (هذا طبعاً في حال سمحت المنظومة الفاسدة المهيمنة على مقدرات البلد في إجرائها في موعدها المحدد في آذار أو أيار المقبلين)، الأمر الذي يتطلب تسريع الخطى في مساعي تجميع الصفوف، والتنسيق بين المجموعات المتجانسة بالأهداف والأفكار وأساليب العمل، لتأليف اللوائح المشتركة، ليكونوا على مستوى رهان اللبنانيين على شق طريق التغيير الذي سيكون صعباً وطويلاً، وقد يُحقق أهدافه في الدورة. الإنتخابية اللاحقة عام ٢٠٢٦.
بقاء مجموعات الحراك على ما هم عليه من إنقسامات وتشرذمات، سيعطي التركيبة السياسية الفاسدة فرصة لتطويل عهدها في الإمساك بالقرار السياسي، وتشديد الخناق على رقاب العباد، والتمديد للخراب على إيقاع الفساد سنوات مديدة في هذا النفق الأسود.
فهل يكون شباب الحراك هم البديل..، أم سيتحمل البلد سنوات أخرى من الإنهيارات المدمرة لمقومات الدولة، ولكل مناحي الحياة والإستقرار؟