في ذكرى مرور سنة على ثورة 17 تشرين، لا يسعني، من موقعي، وأيضاً بصفتي مراقباً لبدايات هذه الثورة ومآلها، وبعض من أقرب الناس إليّ كان في عدادها، إلّا أن أفصح عن مكنونات نفسي بصراحة كليّة، كون هذه الحركة الإحتجاجيّة لم تأت من فراغ في بداياتها، بل من غضب وألم وقلق انتابت شعباً حيّاً في مفصل من مفاصل حياته، من جرّاء أزمات موروثة ومتمادية ومتناسلة، وليست على الإطلاق وليدة اللحظة.
لا أعيش حالة إنكار حيال الثورة وأسبابها ومجرياتها ومآلها، إلا أنّي في الوقت ذاته، لا أعيش حالة إغفال عن التوصيف والتقويم والمعالجة. أثبت التاريخ أنّ الثورات بحاجة دائمة إلى شعارات كي تنطلق الشرارة الأولى والحشد الأوّل والتأجيج الحماسي للمشاعر والتصرّفات، إلا أنّ هذه الشعارات لا تكفي لاستمراريّة الثورة أو تحقيق أهدافها، بل على العكس من ذلك، قد تؤدّي إلى وأدها أو تحجيمها. كلّ الثورات سريعة العطب، ويزيد العنف من عطبها، ذلك أنّ الشعب المتألّم قد يجد نفسه بين مطرقة الحقّ وسندان الاستثمار. أمّا العطب الأساس فإنّه يتأتّى عن فقدان الوعي بمعرض الصخب، حيث لا ثورة من دون وعي على ما كان يقول Jean Jaurès، فيتمّ التصويب الخاطئ على الهدف والمستهدفين، فيتكتّل بعض هؤلاء حمايةً لأنفسهم ومصالح منظومتهم المؤسّساتيّة الفاسدة، لتطويق الثورة والنيل من مِنعتها بإدخال عناصر الشغب إليها، لا بل أكثر من ذلك من طريق تطييفها ومذهبتها وتأطير تحرّكاتها والتحرّكات المضادة لها حزبيّاً.
انّ التاريخ يثبت أنّ ثمة صنفين من الناس في كل ثورة، من يقوم بها ومن يستفيد منها، وأنّ كل ثورة لا تكون ملكاً لمن يطلقها، بل لمن يضع حدّاً لها بأن يسلبها كغنيمة لمصالحه من دون سواه، وثورة 17 تشرين لا تخرج عن هاتين القاعدتين. أمّا القيادة أو الريادة الضائعة، فهي أيضاً من أسباب العطب السريع، وهذا ما يفسّر المقولة الشهيرة بأنّ الثورة تأكل أبناءها، سواء توزّعت القيادة وتبعثرت، أو اتّحدت وتحوّلت إلى ديكتاتوريّة القرار حيث لا يكون رأي آخر في الثورة يسداها أو من خارجها يحاورها. لا أعير اهتماماً خاصّاً للقول إنّ توحيد القيادة والريادة يمكّن أهل السلطة من الإنقضاض عليها، ذلك أنّ المخاطر التي تحدق بثورة لا مرجعيّة لها هي أدهى من تلك التي تتأتّى عن تبعثر الثوار. يبقى الأهمّ، وهو ضياع البوصلة، على ما أشرت، بحيث يسهل الإستخدام السلطويّ للثورة من الداخل والخارج معاً، فيُستهدف رئيس وعهد ونهج، في حين أنّ غاية ما ينشدون هو الإصلاح، وتحديداً التصدّي لممارسات شاذّة منذ عهود وعقود وعلى أكثر من صعيد، اقتصادي واجتماعي ومالي ونقدي، أهدرت المال العام واستباحت مقدّرات الدولة، وجعلت الشعب يعيش حالة تخديرية وسرابية بفِعل سياسات توافرت معها له أموال من جيبه، كمن يحفر قبره بمعول من ذهب.
نعم، لقـد أدرك الشـعب أنّ جنى عمره والآباء والأجداد قد أصبح معظمه هباءً منثوراً، وانعدمت أو كادت وسائل عيشه الكريم في وطنه، وبلغ به الوعي حدّاً كبيراً من القلق على المصير، وهو أصلاً يعيش أزمنة صعبة بفِعل العوامل الجيوسياسيّة التي جعلت من وطن الأرز واحة مهدّدة في كلّ حين من براكين المحيط وحروبه وصراعاته والإرهاب الذي جثم على صدر شعوبه، وقد كاد ينسحب على لبنان لولا قرار رئيس البلاد بضرب هذا الإرهاب التكفيري القاتل على تخومنا الشرقيّة والقضاء على خلاياه النائمة استباقيّاً، والتي إن استيقظت في غفلة من أمن ساهر، هدرت دم الشهادة الزكي من أبناء جيشنا وأمننا الأبطال، وعادت إلى سُباتها الأبدي بفِعل إقدامهم وتضحياتهم وبسالتهم.
يبقى أنّ الزمن غدر بنا جميعاً أيضاً، ولم يقتصر الأمر على جائحة “كورونا” العالميّة، التي زادت من ضيق نسيمنا، بل تجاوزت المآسي حد الاحتمال بانفجار المرفأ في 4 آب وتداعياته الكارثيّة على عاصمتنا وأهلنا، فتهدّم البنيان واختُصرت حيوات الأبرياء وأثخنت الجراح أجساد الكثيرين منهم، وبعضها جسيم، والقلوب تعتصر ألماً وحسرةً.
يبقى أن ننظر إلى هذه الثورة في بداياتها كعلامة فارقة في تاريخ لبنان، رغماً عن الثغرات والعورات والجنوح العنفي وتعميم التهم واختزال زمن الزّيف وضياع الهدف، والمحاور يبقى على أهبة الحوار واحداً أحداً، سيّد القصر، الذي يعاني كثيراً من المستنقع الذي وقعنا فيه جميعاً، والذي لا تغفو في أعماقه الآسنة تماسيح الغدر والحقد والقضم. إلا أنّ المعاناة عند سيّد القصر لا يضاهيها إلّا عناء التصميم على الإنقاذ مهما قست الظروف وجحد قوم وكثرت المظالم بحقّ الرئيس والوطن معاً. إنّ الظلم، عكس الظلام، لا يُعمي البصيرة، بل يوقد الذهن والإرادة ويحثّ على الانقاذ.
إلّا أن أخشى ما أخشاه أن تتحقّق نبوءة Alexandre Solientsyne في رائعته “L’Archipel du Goulag” بأنّ ثورات التاريخ كلّها كاذبة لأنّها لا تكتفي بازالة عناصر الشرّ من الأمّة، بل ايضاً، في تهورها، عناصر الخير، فيعود الشر ذاته اكثر حجماً ووطأة كإرث ثقيل.
قال يوماً الرئيس مخاطباً شعبه “العظيم”، على ما يسمّيه عن حقّ: “أسمعوني صوت أقدامكم”، ما يعني دعوة الشعب إلى أن يثور على الطغمة الفاسدة ويقتلع الفساد من حياتنا العامة، ونعود معاً إلى سلّم قيمنا المجتمعيّة اللبنانيّة، ما يضعنا على المسلك السويّ لتحقيق هدف كلّ حرّ فينا بأن يعيش في ظلّ دولة عادلة يسودها قبول الآخر ونبذ العنف وإزالة الأحقاد من النفوس، حتى نستقرّ قدر المستطاع على رغد عيش.