IMLebanon

فريقان أجهضا ثورة 17 تشرين

 

الثورة تشكّل فرصة للخروج من أزمة تعصف بالبلاد، والثورات لا تحصل سوى بفِعل تكوّن ظروف سياسية وشعبية، ومن يُجهض الثورة هو من لا يريد التغيير. فمَن أجهض ثورة 17 تشرين؟

فريقان أساسيان أجهضا ثورة 17 تشرين 2019 التي حصلت بعد 14 سنة و7 أشهر على ثورة 14 آذار، ولما أبصرت الثورة التشرينية النور لو كانت نجحت الثورة الآذارية، والتقارب الزمني بين الثورتين مردّه إلى نقمة الناس على أوضاعها بسبب التغييب المتواصل للدولة، وأما المشترك بينهما فيكمن في توحيدهما البيئات اللبنانية الطائفية والمذهبية والسياسية حول أهداف وطنية واحدة.

 

الفريق الأول الذي أجهض ثورة 17 تشرين هو «حزب الله» الذي كان قد أجهض ثورة 14 آذار، لأن الهدف الأساس للثورتين قيام دولة فعلية، الأمر الذي يتناقض مع وجود الحزب ودوره، فاستخدم العنف في المرة الأولى والقوة في المرة الثانية، ودلّت التجربة في المرتين ان الانقضاض على الثورتين مسألة حتمية ولو بدّت الثورة التشرينية العنوان المالي والاقتصادي على العنوان السيادي الذي رفعته الثورة الآذارية باعتبار انّ حُسن إدارة الدولة سيصطدم عاجلا أم آجلا بمن يريد إبقاء الدولة صوَرية.

 

فلا دولة في ظل سلاح خارج سيطرتها، والسلاح غير الشرعي لا يستطيع ان يتعايش مع دستور وقانون وقضاء وعدالة وشفافية ومحاسبة، ما يعني ان السلاح غير الشرعي والفساد حالة واحدة، ولا يفيد بشيء ان ترفع الثورة عنوان إدارة الدولة بدلاً من عنوان قرار الدولة تجنّباً لصدام مع «حزب الله»، لأن الصدام مسألة حتمية مهما طال الزمن او قصر.

 

ومَن يُبدّي عنوان الإدارة على القرار يعتقد ان نزع السلاح بالقوة أمر غير ممكن، فيما تعطيل تأثير السلاح أمر ممكن، وذلك من خلال تجاهل السلاح والإتيان بسلطات حكومية وقضائية وإدارية وعسكرية لا تصطدم مع السلاح ولا تتأثّر به في الوقت نفسه، ومثالاً او ترجمة لهذه المقاربة يمكن التوقّف أمام أدوار ثلاث شخصيات: القاضي سهيل عبود، القاضي طارق البيطار، السيد جان العلية، من دون الانتقاص من أدوار شخصيات أخرى على أكثر من مستوى تقوم بدورها من دون الخضوع لسلطات أمر واقع.

 

الفريق الثاني الذي أجهض ثورة 17 تشرين هو مَن رفع شعار «كلن يعني كلن»، وقد يكون رفعه بسذاجة وبساطة تؤشران إلى غياب الخبرة والتجربة والحنكة السياسية، وقد يكون رفعه بوحي معيّن من أجل الإطاحة بالثورة او إفشال أهدافها بكل بساطة، وقد يكون رفعه لأطماع سلطوية مستغلاً الثورة لإزاحة الآخرين تطبيقاً لمقولة «قوم تا أقعد محلّك»، وفي الحالات الثلاث النتيجة واحدة.

 

وإذا كان دور «حزب الله» في إجهاض الثورة مفهوما ومتوقعا، فما لم يكن مفهوما ولا مبررا ولا متوقعا ان يكون دور أصحاب شعار «كلن يعني كلن» الإطاحة بالثورة وإجهاضها، لأنه لا يمكن لأي فريق سياسي، مهما عظم شأنه، ان يخرج لبنان من أزمته العميقة من دون تضافر جهود معظم القوى التي تمتلك التوجُّه نفسه، وبالتالي مجرّد ان تعتقد فئة معينة انها قادرة منفردة على الإنقاذ، فهذا يعني الآتي:

 

أولاً، تفتقد هذه الفئة إلى التمرُّس السياسي، والأهم من ذلك لا تفقه معنى تركيبة البلد وتاريخه السياسي، وتجهل طبيعة التوازنات بين الجماعات، وان اي تغيير لا يأخذ في الحسبان مصلحة الأفراد والجماعات يصطدم بالحائط المجتمعي المسدود، واي فئة لا تدرك كل ذلك لا يمكن ان تقود ثورة.

 

ثانياً، توهّمت هذه الفئة، اي صاحبة شعار «كلن يعني كلن» او من استغلته واستخدمته، انّ قرف الناس من الوضع القائم سيخوّلها الإطاحة بكل الطبقة السياسية بضربة واحدة ومن دون تمييز، ففرّغت الثورة من البرنامج الوطني وحصرت مطالبها بشعار عملت على تضخيمه متوهمة قدرتها على إزاحة الآخرين والحلول مكانهم، لأن كل هدفها السلطة، ودلّت من خلال ممارستها انها ما دون سنّ المراهقة.

 

ثالثاً، نجحت هذه الفئة، ويا للأسف، بخطف ثورة كان يمكن ان تحقِّق أكثر بكثير مما حققته، وهي تتحمّل أمام جميع اللبنانيين مسؤولية إجهاض الثورة بسبب أنانيات او قصر نظر أو نقص في الخبرة أو أطماع سلطوية او تنفيذا لأجندة «حزب الله».

 

رابعاً، تخيّلت هذه الفئة ان بإمكانها منفردة إخراج لبنان من أزمته، وأحد أسباب هذا التخيُّل انها لا تريد شريكا في انتصارها المزعوم متجاهلة او غير مطلعة كيف ووجهت انتفاضة الاستقلال بالقتل والاغتيال والحرب، او تجنباً لمصير 14 آذار نفسه قررت ان تساوي مَن يخطف الدولة بمَن يعمل على تحريرها، وذلك في سياق مسايرة مقصودة لـ»حزب الله» من أجل ان تتلافى شرّه بقولها له ان الثورة غير موجهة ضده، إنما ضد كل القوى السياسية.

 

خامساً، قدّمت هذه الفئة أكبر خدمة يتمناها «حزب الله» كونها ساوت بينه وبين القوى السياسية المعارضة لدوره وسلاحه، وماذا يريد الحزب أفضل من ذلك؟ فيما كان يفترض في هذه الفئة ان تكون شريكة مع القوى التي تريد قيام دولة فعلية وسلاح واحد وسيادة ناجزة، وكان يفترض ان تشكل ثورة 17 تشرين قوة دفع لانتفاضة استقلالية جديدة، ولكن أجهضت في مهدها بسبب شعار تآمري بأهدافه وفارغ بمضمونه.

 

سادساً، سَطّحت هذه الفئة طبيعة الأزمة السياسية من خلال تصويرها ان الطبقة السياسية مسؤولة عن الأزمة، وهذا ما يفسِّر شعار «كلن يعني كلن»، وهذا تجهيل متعمّد للوقائع والحقائق ويرتقي إلى مستوى الخيانة الوطنية، لأن جوهر الأزمة اللبنانية ليس صراعا على السلطة، إنما جوهرها يكمن في خلاف عميق بين مشروعين مختلفين جذرياً عنوانه الدولة، بين من يريد قيامها ومن يريد تغييبها، وهذا الانقسام يشكل امتدادا لسنوات وعقود، والمستفيد من تبسيط الصراع هو «حزب الله» الذي يشكل دوره وسلاحه عائقا أمام عودة لبنان دولة طبيعية.

 

سابعاً، تعمّدت هذه الفئة تضخيم سوء إدارة بعض قوى 14 آذار من أجل التذرُّع ان سبب الأزمة 8 و 14 آذار معا، وانها خارج الاصطفافات وكأن الأزمة هي بين من هو مع دولة إسلامية ومن هو مع دولة مسيحية وان هناك من يريد إقامة دولة مدنية، فيما الاصطفاف الموجود إذا كان يمكن الكلام عن اصطفاف هو بين من يريد دولة ودستورا واستقرارا وازدهارا وحياة طبيعية كأي دولة تحترم نفسها في العالم، وبين من يريد إبقاء لبنان ساحة حرب وقتال وموت وهجرة وعدم استقرار.

 

ثامناً، تجنّت هذه الفئة على اللبنانيين والثوار ضمناً بمقولة انه يمكن إنقاذ لبنان من دون أهداف وطنية واضحة تبدأ بدولة السيادة ولا تنتهي بدولة القانون وما بينهما التمثيل الصحيح تجسيداً لميثاق التعايش، وواهِم من يظنّ بعد تجربة طويلة منذ العام 2005 ان مكافحة الفساد ممكنة قبل نزع السلاح، كما انه واهم من يظنّ ان بإمكانه مواجهة السلاح من دون تحالف يجمع أحزاب الطوائف والرأي العام العابر للطوائف، وقد دلّت تجربة 14 آذار انها الأنجح ربطاً بإنجازاتها الكثيرة، وأما إخفاقاتها فسببها الأساس مواجهتها بالاغتيال والسلاح، فيما فئة «كلن يعني كلن» هي المسؤولة عن الإطاحة بثورة 17 تشرين، بسبب رفضها الاعتراف بطبيعة الاجتماع السياسي في لبنان، وإصرارها على استبعاد البعد المتعلِّق بالجماعات وحصر التغيير بفئة الرأي العام وكأنّ التمثيل السياسي في لبنان مفصول عن البعد الميثاقي.

 

وفي الذكرى السنوية الثالثة على ثورة 17 تشرين لا بدّ من توجيه التحية إلى كل مَن ثار من اللبنانيين وانتفض على الأمر الواقع الذي بدّل في نمط عيشهم وحياتهم، ولا بدّ من ان يكون هذا الشعب الذي توحّد في كل ساحات لبنان وصل إلى قناعة ان مَن انتخبهم يشكلون بممارستهم حالة عونية جديدة مجردة من المبادئ والقيم والثوابت وترتكز في أدائها ومواقفها على المزايدة والاختلاف للاختلاف ولا هدف لديهم سوى حبّ الظهور والسلطة، وبعيدين كل البعد عن الهدف الأساس والجوهري المتعلِّق بشبك الإرادات والصفوف مع كل من يريد ان يكون لبنان دولة طبيعية أيديولوجيتها الوحيدة هي الإنسان وليس السلاح.

 

وفي الذكرى السنوية الثالثة على ثورة 17 تشرين لا بدّ من التأكيد على أمرين: الأول ان نجاح الانتفاضات والثورات يتوقّف على ذكاء من يقف خلفها وقدرته على توحيد صفوفها بمشروع سياسي وثقافي وإنساني، كما قدرته على وضع زيح بين مرحلتي ما قبل الثورة ومرحلة انطلاقها، وان يميِّز حتى حدود الفصل بين مشروع الثورة السياسي ومَن هو ضده بمعزل عن تموضعه قبل الثورة.

 

أما الأمر الثاني الذي لا بدّ من التأكيد عليه فهو الحاجة إلى ثورة ثالثة تكون ثابتة ونهائية وتُزاوِج بين أولويّتي دور الدولة وإدارتها، ولا شك بأنّ هذه الثورة آتية حتماً وستشكل العبور إلى لبنان الذي يريده معظم الشعب اللبناني، لأنّ المؤقت مهما طال الزمن سيبقى مؤقتاً بانتظار عودة لبنان دولة طبيعية.