قبل أن يكون 17 تشرين الأول 2019 كان 14 تشرين 2019 الذي “عربش” على جثّة 13 تشرين. يومها قال جبران جرجي جرجي باسيل: “رح نقلب الطاولة” وقبل أن يصمت طارت الطاولة والبلد وأهل البلد وكرجت الأيام سوداء قاتمة مظلمة داكنة حالكة دامسة. والتهمت نار جهنم الجميع. عشنا جهنماً قبل أن يحدثونا عنها. ويومها أعلن باسيل ذاك نواياه: زيارة سوريا الأسد. كلّ ذلك والنار تلتهم الأخضر واليابس في المشرف والدولة في خبر كان. سواد إضافي على سواد. وأتى 17 تشرين وانقلبت بالفعل الطاولة. طفح كيل الناس فتدحرجت الأرض بمن فيها. وحُشر “بيّ الكل” في الزاوية بضربة الواتساب. وأصبح في تاريخ لبنان المجيد يوم 17 تشرين. ثلاثة أعوام كأنها اليوم، كأنها يوم، كأنها لحظة من لحظات اليقظة، وكم هي قليلة شحيحة نادرة. ظنناها القيامة، والحساب لا يكون إلا يوم القيامة. كلّ ذلك من دون أن ندرك في حينه أن ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: الغبي واللص والمنافق. فهل قبض ثلاثتهم على الثورة التي قامت قيامتها قبل أن تهمد؟
…وزهّر تشرين لكن ليس تشرين التيار. الشعب اللبناني الجبار، زهّر في منتصف عهد التيار، قالباً، في 17 تشرين 2019، كل الطاولات على الكل هاتفا “كلّن يعني كلّن”. العبارة، في وقتها، أتت من قلب محروق لكن، مع الأيام، يفترض أن يُميّز الغاضب بين “كلّن”، بين من أخطأ في مكان وبين من أخطأ في كل مكان، لكن لم يعطَ الغاضبون الحقيقيون حظوة التمييز فسُلبت الثورة الحقّة من المقهورين واستعادت المنظومة المتجذرة الإمساك بها وراحت تقبض عليها مستعينة بمنهجية “فرق تسد”.
سنتات قليلة “قامت” لها الدنيا، وأربعون ألف ليرة للدولار الواحد لم تحرك بشراً متسمرين جثثا بلا روح. فماذا حصل؟ هل أخطأنا حين سميناها ثورة؟ هل نواب 17 تشرين كذبة أخرى؟ هل يتحرّك شعبنا على الريموت كونترول؟ وهل اللبناني إنفعالي يغضب بسهولة ويهدأ بسهولة؟ في 17 تشرين 2022 لم نعدّ نصدق من يهتف: ثورة. اليوم، ما عدنا نصدق أن الشعب قادر على الإنتفاض وتقرير المصير؟ فهل يتحمل الناس المسؤولية؟ وماذا عن ساحة إيليا في صيدا وجسر الرينغ في بيروت وجسر جل الديب في المتن الشمالي وساحة النور في طرابلس ومستديرة المنارة في زحلة وساحة خليل مطران ودوار دورس في بعلبك وجسر حبوش في النبطيه وساحة العلم في صور؟ نعم، نكاد ننسى كل تلك الساحات ونحن منهمكون في اللحاق بطيران سعر الدولار وبتأمين ثمن الوقود والخبز وكيلوات صاحب الموتور الجشع. نعم، نسينا ونحن العارفين أن الثورات يديرها الدهاة وينفذها الشجعان ويكسبها الجبناء. أصبحت حتى الإبتسامة على شفاهنا باردة مثل الثلج. أصبحنا كما هؤلاء الراضخين الذين يقولوا للحكام أعطونا الأحذية وخذوا الطرقات، أعطونا الخبز وخذوا الحرية، أعطونا المياه وخذوا الثورة. يا الله كم تغيرنا في ثلاثة أعوام.
نبحث عن نواب 17 تشرين. 13 اسما. ماذا يفعلون اليوم؟ هل أتوا من وجع الناس أم أتوا ليلعبوا، مثل كل الآخرين، بوجع الناس؟ نراهم يدورون في أمكنتهم الضيقة. وضاح الصادق أحدهم. الفيسبوك الخاص به غصّ بعد أيام قليلة من تبوّئه منصب “سعادة النائب” بالفراندز وأول قرار اتخذه معللاً إياه: “وصل عدد أصحابي على personal account للحدّ الأقصى. خلينا ننتقل عالصفحة الكبيرة وهيك بيكون التواصل أفضل”. سعادته يُحب التواصل مع الناس، مع شعب 17 تشرين، لكن الناس الذين لفحهم هواء تشرين يجيبونه في كل مرة يشاطرهم فيها فكرة: “ليس بالسوشيل ميديا تبنى الأوطان”. مآخذ الناس على وضاح ورفاقه كثيرة. ولنقرأ في التعليقات: “إنتو بس للحكي وين الفعل؟”. “صرتوا نواب باسم الناس لتنقوا على الفيسبوك”. “توقعنا منكم الكثير لكن فشلتم في تشبيك أيديكم مع من يشبهكم لانتخاب رئيس للجمهورية سيادي وعم تلعبوا بالمجلس متل “بيت بيوت”… ثوار 17 تشرين في قرف شديد شديد.
أخطاء ومندسّون
فلنبحث عن الثوار على الأرض. أين شربل قاعي وأنطوني دويهي ورامي المنجد (فقد عينه وهو يصدح بحنجرته كرامة وعنفواناً) وميشال شمعون وبلال علاّو وجمال ترو… أخطأ الشباب، منذ البداية، في مطالبهم. في اعتبار الكل واحد “كلن يعني كلن” ويقول أستاذ علم الإجتماع عبدو قاعي “أخطأ شباب 17 تشرين منذ البداية حين راحوا يهتفون: نحن من كل الطوائف. هذه العبارة تشير الى أنهم ما زالوا ينخرطون في طوائفهم. الذاكرة دفعتهم الى هذا القول معتبرين أنهم على عكس كل من سبقوهم ليسوا طوائفيين. صيغة النكران تشي بأن المنكر موجود. أمر آخر لفت أستاذ علم الإجتماع وهو إعلان الشابات والشباب: بدنا حكومة. هذا القول يشي باستسلامهم. وكان أجدى بهم أن ينادوا: نريد تشكيل حكومة. نريد انتخاب رئيس، يفترض بالشباب صناعة الأشياء لا المطالبة بها. يفترض بالثائر أن يقول: أنا من أقرر. أنا المشرّع. المواطن الثائر يلعب دوره الكامل المطلوب منه. كان يجب أن يكون الشباب تغييريين فعليين. والمغيّر يخترع ويقترح وينفذ بدل أن يطلق شعارات وعبارات إنشائية”.
إذا كانت هذه هي حال الشباب فكيف حال من أتوا باسمهم نواباً؟ هؤلاء مشوا مع القافلة وباتوا يطلبون بدل أن يحققوا. إنضمّ هؤلاء الى قائلي “ما خلونا وما عمبيخلونا” وباتوا صغارا في مواقعهم. خسر هؤلاء أقله حتى اليوم في تمثيل ثورة اعتبرها اللبنانيون مجيدة.
ثورة 17 تشرين، التي سماها البعض إنتفاضة، و”تلبك” آخرون في الإختيار بين الأسماء نُخرت منذ أيامها الأولى بسوسة المنظومة المتجذرة. منذ البدايات رحنا نسمع من يصرخ في الساحات، كما في البراري، “لبيك نصرلله” مشكلاً حلقات مجنونة يهتفون فيها “صهيوني صهيوني سمير جعجع صهيوني”. هؤلاء أرادوا منذ البداية “تهشيل” المسيحيين الذين يرفضون سلاح “حزب الله” وفساد الدولة لا الإنصات الى من يحوّرون الثورة الجميلة الى مبتغاهم. هناك من اندسوا منذ أيام الثورة الأولى لافتعال الشغب وتكلمت عنهم يومها وزيرة الداخلية ريّا الحسن لكنها لم تفلح لا هي ولا غيرها في محاسبتهم. العميد المتقاعد عبدو بجاني قال “هناك نوعان من الشبان الذين اندسوا في الساحات يومها. نوع أول مكلف، نزل بأمر مسبق للقيام بأعمال عنفية، مستخدماً الدراجات النارية، وهو يأتمر بأكثريته الساحقة من الثنائية الشيعية، من أجل ضرب التظاهرات. وهناك العناصر الأمنية التابعة لمجلس النواب وعين التينة الذين يشكلون ميليشا خاصة تقبض من خزينة الدولة. أما النوع الثاني فهو شباب غوغائيون ليس لديهم ما يخسرونه ساهموا أيضا بضرب روحية 17 تشرين”. ونحن نسمع العميد المتقاعد نتذكر مشاهد الشباب الذين كانوا يأتون من الخندق الغميق هاتفين “شيعة شيعة” ومن خربوا الساحات وأحرقوا الخيم مرات ومرات وهم من سبق واستولوا في العام 2007 على الوسط ونحروه من الوريد الى الوريد.
نتذكر الطلاب الذين نزلوا أوائل ثورة 17 تشرين تحت هاشتاغ #ثورة_طلاب، ونتذكر من يدعون المقاومة الفضلى وراحوا يوخزون “فائض قوتهم” في مفاصل الثورة غير آبهين بأحلام الشباب بلبنان على مقاس طموحاتهم. شبابٌ كثيرون، مع مرور الوقت، وضبوا المستقبل في حقائب ورحلوا تاركين البلد للرعاع. فهل انتهت ثورة 17 تشرين كما انتهت ثورة 14 آذار؟
خرق “الحزب”في طرابلس، عروس الثورة، بدأت الأجهزة التابعة لـ “حزب الله” بعد يومين فقط من مشهد ساحات المدينة الجميل في الإختراق فـ”حزب الله”، بحسب الجماعة الإسلامية هناك، خرق الساحات رافضاً قضاء الثورة، واي ثورة، على العهد الذي هو عهده. وكان له ما أراد.
أخطأت ثورة 17 تشرين
نعم أخطأت. هذا ما قاله الدكتور أنطوان مسره “منذ هتفت فليسقط النظام” ويشرح “كثيرون رددوا هذه العبارة من دون أن يفهموا معناها. وكان أجدى بهم القول فلتسقط الطبقة الحاكمة” واستطرد “النظام في لبنان غير مطبق كي يصار الى إسقاطه. الطبقة الحاكمة لم تطبقه فكيف نُسقط ما لم يُطبق؟ لدينا دستور بالنصّ والروح لكن جرى التلاعب في نصوصه الدستورية، بدليل أنهم جعلوا من الحكومات برلمانات مصغرة في سبيل السيطرة عليها ونالوا من الميثاقية”.
الشباب يستعجل تحقيق الأحلام فينجرف. أما الكبار فيبحثون عن “حظوظ” وينسون النواة. إنهم يبحثون عن مناصب ولو على أحلام الشباب. وهناك من يتلاعب بالجميع. واليوم، مع حلول ذكرى ثورة 17 تشرين الثالثة نعود لنسأل: هل الثورة قابلة للهزيمة؟
التجربة المصرية
كثير من الشباب العربي الذين عاشوا ثوراتهم، وتابعوا ثورتنا اللبنانية، سبق وأعطونا نصائح كي لا ينتهي بنا المطاف كما انتهى بهم. هؤلاء سبق وقالوا لنا: ثورتكم جميلة جميلة. فلنسمع التجربة المصرية. يقول الصحافي في “المصري اليوم” إبراهيم الطيّب: “قفز السياسيون على ثورتنا وعلى المكاسب البريئة التي حققها الشباب المصري وسرقوها حتى بات أهالي مصر يسمون ثورة يناير نكسة يناير” واستطرد “الثوار البسطاء، غير المسيسين، يتعبون على المدى الطويل، والسلطات تتكل على ذلك لتستعيد بسط سيطرتها على أي حراك. السلطة تراهن على مرور الوقت وتعب الثوار لأن لا أحد قادر على أن يثور طوال الوقت. هو يريد ان يأكل ويشرب. لذا كان يفترض الإنتباه الى عامل مرور الوقت”.
هذا ما حدث، ألهوا الناس بالعوز والفاقة والإنتظار على قارعة الطريق، بعض ليترات بنزين وربطة خبز وبعض “الملاليم” من مستحقاتهم في البنوك فمرّ الوقت. والوقت من ذهب إن لم تدركه ذهب.
اليوم 17 تشرين الأول. هو ذكرى ثورة أو إنتفاضة أو حراك. لا تهم التسمية التي انطلقت في مثل هذا اليوم، من ألف يوم، والتي تعاملنا معها كمجرد إنفعال عاطفي وتصفيق يمزّق الأكف وهتاف يجرح الحناجر. كان يفترض أن تكون أكثر من كل ذلك كي لا تُصبح تكراراً، نسخة طبق الأصل، لثورة 14 آذار. فهل نصيبنا أن نظل نثور بدون مكاسب؟ نصيبنا أننا نعيش في حنايا منظومة متجذرة يحتاج كل من ينقلب عليها الى أكثر من البقاء عند ناصية الإنتظار.