IMLebanon

«ثورة تشرين» تحطِّم حواجز الخوف: «حزب الله» وحلفاؤه أمام المأزق الكبير!

 

 

رغم الخط الأحمر الذي وضعه الجيش لحماية المتظاهرين فإن المخاطر لا تزال قائمة.. وهذا ما تتنبّه له مجموعات التنسيق

 

من الصعب على أحد التكهن بما ستؤول إليه التظاهرات الشعبية اللامركزية التي تطال مختلف المناطق اللبنانية احتجاجاً على الأزمات المعيشية والاقتصادية الخانقة التي تحاصر اللبنانيين، وعلى الأداء الحكومي الذي يُمعن نظام المصالح والمحاصصة الطائفية وفساد السلطة في تدمير مستقبلهم. من الصعب التكهن بنهائيات «الربيع اللبناني» أو «ثورة تشرين» كما يجري تسميتها، لأن الانفجار الشعبي فاجأ الجميع أصـلاً رغم إدراكهم بحال التململ والإحباط والضائقة المالية التي أضحت سمة مشتركة بين اللبنانيين بخلاف مشاربهم السياسية والاجتماعية ومناطقهم وطوائفهم ومذاهبهم.  لم يكن الانفجار الشعبي العابر للطوائف محسوباً، لأن الرهان كان على الدوام بأن العصبيات الطائفية والاصطفافات خلفها، كفيلة في عدم توحيد اللبنانيين على قضية واحدة. وَقْع المفاجأة صادم لأطياف السلطة وصمود «الحراك الشعبي» مُخيف لهم، والحيرة في كيفية التعاطي معه بدأت تُرخي بظلالها على المشهد اللبناني.

 

في الأساس، هناك استخفاف رهيب في قراءة معاني التظاهرات، انطلاقاً من عدم القدرة على فهم مكنونات الجيل الشاب وطريقة تفكيره وانعكاس انخراطه في ثورة الاتصالات والتكنولوجيا على وعي مختلف ومتطوِّر وخارج السراديب الضيّقة والتعليب الممنهج. وترافق هذا الاستخفاف مع عنجهية واستعلاء كبيرين من الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في أربعينية الحسين عندما خرج مهدداً رئيس الحكومة والوزراء إذا استقالوا، وحين منح المتظاهرين، بعد فحص دمائهم، شهادته بأنهم يتحركون بشكل عفوي غير موجه من جهات أو سفارات نازعاً عنهم صفة المتآمرين، ومعتبراً أنه وحزبه خارج المساءلة الشعبية، وأن الجموع في الساحات رهن إشارته.

 

جاء الرد سريعاً من الساحات «كلن يعني كلن ونصر الله واحد منن». بدا أن الحشود الشعبية في الشوارع هي من صنف آخر، وهُم في وادٍ آخر، عَجَنَهم اليأس والذل ومصادرة أحلامهم ومستقبلهم في قالب وطني واحد خارج كل القيود والعوائق والحقن الطائفي. التجربة يافعة بالتأكيد، لكن تخيُّل حصولها كان من الأوهام والمعجزات، حتى أن حجم مشاركة الاغتراب اللبناني كان لافتاً في مؤشر على حجم القهر من الهجرة القسرية التي فُرضت على شبابه جرَّاء غياب فرص العمل في بلدهم.

 

اعتبر المراقبون أن مشهد 14 آذار 2005 كان مشهداً غير مسبوق، حين توحّدت غالبية اللبنانيين لإخراج الوصاية السورية من لبنان. كانت دماء رفيق الحريري هي شرارة تلاقي المسيحيين والمسلمين، وسط ظروف إقليمية ودولية ساعدت على تحقيق هذا الإنجاز الذي بقي خارجه «الثنائي الشيعي» المتمثل بـ «حزب الله» وحركة «أمل». ولكن مشهد اليوم مختلف بكل المعايير: وحدة لبنانية، صوت واحد، شعار واحد، وكُفر واحد من كل الطبقة السياسية التي تخذلهم في كل استحقاق وعند كل مفترق.

 

سقطت حواجز الخوف. لم يسمع المتظاهرون ما أعلنه رئيس الحكومة سعد الحريري من ورقة قال إنها إصلاحية بعدما أعطى شركاءه في الحكومة مهلة 72 ساعة كي يسيروا في خطته الإصلاحية. استفاد الحريري من ضغط الشارع لتمرير الورقة الإصلاحية التي هي شرط رئيسي لمانحي مؤتمر «سيدر» للإفراج عن المشاريع الإنمائية التي وُعد بها في نيسان 2018 كحزمة من الدعم للبنان لانتشاله من أزمته الاقتصادية. ولكن الشارع لم يلاقيه، وكان يتوقع على أقله استقالة الحكومة، ليس نقمة منهم عليه، بل على التركيبة السياسية الفاشلة التي يشهدها لبنان منذ التسوية الرئاسية 2016 والتي أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وأعادته هو رئيساً للحكومة.

 

الجموع البشرية تنتفض على الواقع الراهن، تعرض لمكامن وجعها، تصوِّب نحو الظاهر من أسبابه. ليس متوقعاً من المتظاهرين أن يكونوا فقهاء في علم السياسة وضليعين في تشريح أسباب الأزمات التي يعشيها لبنان. لكن سرعة تطوّر المطالب وارتفاع سقفها يشي بأن مسار التحولات قد بدأ بمعزل عن الوقت الذي سيأخذه، وبمعزل عما إذا كانت انتفاضتهم سيتم تطويقها أم لا. من شعارات الفساد والفاسدين، إلى المطالبة بإسقاط الحكومة، دخل على خط المطالب تشكيل حكومة انتقالية من اختصاصيين، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وتنحي العهد. الترجمة العملية لشعار «كلن يعني كلن»، تعني أن الشعب الذي أعطى وكالته لممثليه في البرلمان الذي منح ثقته للحكومة التي هي على شاكلة برلمان مصغر قد سحب هذه الوكالة. وبالتالي، وهذا بات يتطلب إجراء انتخابات مبكرة على أساس قانون عصري لا يُعيد إنتاج نفس السلطة. ليس تفصيلاً أن يُعلن الحريري أنه يسير بانتخابات مبكرة وأن يطالب الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بها كمخرج للمأزق السياسي.

 

المأزق السياسي الذي من الصعب الخروج منه دون كلفة عالية هو أن لبنان لم يعد بمقدوره تحمّل سقوطه تحت قبضة «حزب الله» الممسك وحلفائه بأكثرية برلمانية وبأكثرية حكومية، وهو صاحب القرار الفعلي، يدير الأمور من خلف الستارة، يفرض شروطه، وهو لم يصل إلى هذا الحد من التسلط لولا أنه ترك المنظومة السياسية تغرق في الفساد لتغطية سلاحه سياسياً، ومن ثم فرض قانون الانتخاب الذي أمَّن سيطرته وحلفاءه على الحكم في صناديق الاقتراع.

 

يظن «الحزب» أن عموم الشعب اللبناني ينظر إليه على أنه خارج منظومة الفساد، فيما هو في صلبها، من خلال السوق الموازي الذي يتحكم به والذي ساهم في تخريب الدورة الاقتصادية، فضلاً عن انعكاسات دوره كذراع عسكرية لإيران في الإقليم الذي أدى إلى فرض حصار على لبنان عبر الانكفاء العربي واستثماراته ومساعدته، كما أن تصنيفه منظمة إرهابية تركت نتائجها على لبنان ولا سيما في ما خص العقوبات الأميركية عليه وعلى من يتعامل معه من المصارف والأفراد والكيانات والجماعات. لكن الاختناق الاقتصادي والمالي على البلاد وتزايد الضغوط سيدفع في اتجاه تصويب السهام على الأسباب الفعلية، دون التقليل من عوامل الفساد والمحاصصة والزبائنية السائدة.

 

قد يكون باكراً الجزم بمآل الأمور في الغد. رهان السلطة هو على تذويب التظاهرات وتركها تتلاشى، بعدما بدا أن قائد الجيش سيؤمن سلامة المتظاهرين ولن يلجأ إلى أساليب لقمع الشعب السلمي الذي يطالب بحقوقه المعيشية المحقة، خصوصاً أن أفراد المؤسسة العسكرية وعائلاتهم يعيشون المعاناة نفسها، فضلاً عن إدراكه أن العين الدولية عليه، وبعدما بدا أن خطاً أحمر أمنياً قد رُسم أمام السماح باللجوء إلى فرط التظاهرات ترهيباً بواسطة سلاح «الدراجات النارية» الذي تمرَّست فيه مجموعات غب الطلب لدى «حزب الله» و«حركة أمل» على أقله في العاصمة بيروت.

 

على أن هذا الخط الأحمر لا يمكن الركون إليه بوصفه ضمانة للمتظاهرين. فالتيار الوطني الحر وتحديداً رئيسه جبران باسيل تعرّض لهجوم واسع في ساحات التظاهر فاقت كل التوقعات، ما سيدفعه إلى التفكير في كيفية رد الاعتبار وأدواته، لا سيما وأن الشارع أطاح بطموحاته الرئاسية وسط هذا الكمّ من الاستهداف. ويتلاقى في هذا الإطار مع «حزب الله» الذي لن يسمح بأن تؤدي هذه التظاهرات إلى تهديد استمرارية العهد من جهة وتركيبة السلطة السياسية المنبثقة عن الانتخابات النيابية التي أمّنت له السيطرة الكاملة على الحكم.

 

المخاطر لا تزال قائمة، وهذا تتنبه له مجموعات التنسيق التي بدأت التظاهرات تفرزها. هم يدركون أن مركزية التجمع تزيد من المخاطر، وأن لا مركزية الاحتجاج بتلك الساحات المتعددة والتي تكبر يوماً بعد يوم من شأنها أن تشكل حماية للحركة الاحتجاجية، حتى لو تعرضت ساحة للضغط، فإن الساحات الأخرى قادرة على مدها معنوياً، وأن تُزخّم من حركتها. فتظاهرات ساحتي رياض الصلح والشهداء في قلب العاصمة على مقربة من السراي الكبير لها رمزيتها، لكنها لا تقل أهمية عن تظاهرة طرابلس الضخمة التي شكلت علامة فارقة ولا عن تظاهرة جل الديب وذوق مكايل ولا عن تظاهرة جبيل. قد ينجح «الثنائي الشيعي» في وأد التحركات الاحتجاجية في مناطق نفوذه في الجنوب وبعلبك – الهرمل لبعض الوقت، لكنه لن يستطيع أن يفعل ذلك لكل الوقت، بعدما تكسرت حواجز الخوف وسقطت الهالة عن زعاماته.

 

رلى موفّق