رغم طابعها المطلبي، وحرص المنتفضين على تحييد ملفات الصراع الاستراتيجي الكلاسيكية في لبنان مثل سلاح «حزب الله» وأدواره الإقليمية، فإن «ثورة أكتوبر (تشرين الأول)» تتحول سريعاً إلى موقع مضاد للحزب. شيئاً فشيئاً يتقدم «حزب الله» ليصير الخصم المعلن للثورة، بعد أن انهار رئيس الجمهورية وفريقه، لا سيما الوزير جبران باسيل الغائب تماماً عن الصورة العلنية؛ أكانت صورة اتصالات سياسية أم تصريحات أم مقابلات أم خطابات.
بارتباك كبير يختبئ الرئيس خلف دور أبوي، غادره مراراً خلال أيام هذه الثورة البادئة منذ نحو أربعين يوماً، وبات يكتفي بتصريحات ضعيفة عن الحوار ومكافحة الفساد وضرورة العمل، من دون أي رؤية عملية أو وهج قيادي لازم في لحظات كالتي يمر بها لبنان.
يعرف «حزب الله» أن عهد ميشال عون انتهى، وأن إمكانية إنقاذ المستقبل السياسي لوريثه جبران باسيل مهمة شبه مستحيلة، مع ما يعنيه ذلك من خسارة استراتيجية للغطاء المسيحي لـ«حزب الله» وسياساته المحلية والإقليمية ولموقع سلاحه في الحياة الوطنية اللبنانية كما موقعه في أزمات الإقليم. ويدرك أن هذه الثورة تكتسب كل يوم مزيداً من الثقة والقوة بعد كل الإنجازات التي حققتها وأبرزها خمسة.
1- قوتها كسرت كلمة حسن نصر الله الذي كان يعارض إسقاط الحكومة.
2- اندفاعتها أجبرت الرئيس سعد الحريري على الاستقالة.
3- وضوحها أحرق العهد ووريثه، وأنهى أسطورة الرئيس القوي الذي تقوم قوته، وفق تعريف العونية السياسية، على الاشتباك الدائم مع الجميع.
4- وعيها عطل محاولة الالتفاف عليها بترشيح الوزير محمد الصفدي لتشكيل حكومة، ليكون أول رئيس حكومة في تاريخ لبنان يسقط في الشارع قبل تكليفه.
5- إصرارها سرق من رئيس المجلس النيابي اللبناني نبيه بري أعزّ ما يملك منذ ما بعد «الطائف» وهو التحكم المطلق في مصير ومسار مجلس النواب، فأجبروه على إلغاء جلستين نيابيتين في سابقة لم يعرفها في حياته السياسية رئيساً للسلطة التشريعية.
في هذا التعداد لا أتطرق إلى الإنجازات الرمزية والمعنوية والوطنية الأعم للثورة وشبيبتها؛ وأهمها استيلادهم عقداً اجتماعياً جديداً بين اللبنانيين يقوم على تعريف دقيق للمصالح المشتركة بين المواطنين وعلى تعريف للمواطنة وفق محددات الهوية الوطنية، وإقصاء حاد للهويات الفرعية نحو الهامش. لم يظهر ذلك بوضوح مثل ظهوره في مظاهرة يوم الاستقلال في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، والعرض المدني (في مقابل العرض العسكري الكلاسيكي)، الذي قدم فيه اللبنانيون أنفسهم بصفتهم قطاعات مهنية وحرفية واقتصادية ونشاطية ينطوي كل واحد منها على تنوع وثراء بتنوع وثراء الاجتماع اللبناني. في المقابل؛ يتصدر مظاهرات «حزب الله» المضادة الإصرار على تصدير الهوية الفرعية والتي تختصرها الهتافات.
الجامع هنا هو ترديد الشعارات الآيديولوجية وليس مصالح مباشرة لمهندسين وأطباء وتجار وفنانين وأمهات وطلاب… وغيرها من التقسيمات التي اعتمدتها مظاهرة «22 نوفمبر».
أكاد أجزم بأن هذا الفارق هو الفيصل الذي يقسم بين «ثورة أكتوبر» المدنية الوطنية اللبنانية، وبين «حزب الله» وآديولوجيته من دون أي إضافات. صحيح أنها ثورة ضد عموم الطبقة السياسية، التي لا يختزلها «حزب الله»، لكنه بين مكوناتها هو الأكثر حدّة في إصراره على مواجهتها واستعدائها. فالحريري حاول أن يمدّ الحبال معها على قاعدة مفتعلة هي مشاركتها الامتعاض من جبران باسيل. أما سمير جعجع فحاد عن طريقها منذ البداية معترفاً بها وبحقوقها، وهرب منها وليد جنبلاط إلى ورشة داخلية في الحزب الاشتراكي، وانهار أمامها الرئيس عون ووريثه جبران باسيل. وحده الحزب ماضٍ في مواجهتها تارة بالتخوين وزرع الشكوك حول برنامجها وأصالتها ووطنيتها، وتارة بالعنف العاري عبر بلطجية الأحياء، ومعظمهم من غير المتعلمين والعاطلين عن العمل، وسكان أحياء البؤس التي يهيمن عليها «حزب الله» أو «حركة أمل»…
من المثير حقاً أن ثورة حرصت منذ البداية وبذكاء موصوف على مخاطبة كل اللبنانيين بلغة مصالحهم المباشرة، واجتهدت كي لا تغرق بملفات الانقسام العمودي مثل «حزب الله» ودوره وسلاحه، تُواجَه بجرّها إلى هذا المكان بالضبط وبإصرار من «حزب الله» نفسه. فإذ يفترض أن يقلق الحزب من طرح موضوع سلاحه من قبل الثورة، تراه أكثر قلقاً من عدم طرح الموضوع، بل يسعى جاهداً لإيجاد أرضية عداء مع الثورة على قاعدة ملفات لم تطرحها.
يعرف الحزب أن المطلب المركزي للثورة أخطر بكثير من فتح السجال معه حول السلاح أو الاستراتيجية الدفاعية أو تنظيم قرار السلم والحرب. يعرف أن الثورة أكثر راديكالية من ذلك لمجرد أنها تطرح فكرة الدولة الناجحة القادرة والمتحررة من ألاعيب زعماء الطوائف وخطاب التخويف الذي به يدارون التعايش القسري مع «حزب الله» في مقابل التنعم بالتمثيل السياسي ومكتسباته.
«حزب الله»، بصفته عقائدياً، يعرف أن الدولة تهديد وجودي له ولدوره، وأن رواج فكرة الدولة مجدداً بين اللبنانيين واكتسابها عصباً مدنياً وشعبياً يتجاوز الأحزاب الكلاسيكية التي بها ومعها أدار «حزب الله» استراتيجية الاستحواذ على الدولة، هو خطر يتجاوز كل الأخطار. بهذا وحده يُفهم لماذا يستعدي «حزب الله» الثورة إلى هذا الحد، ولماذا، تتحول الثورة وإن لم ترد إلى ثورة على سلاحه أولاً وقبل كل شيء.