تمرّ اليوم الذكرى الـ46 على حرب تشرين او حرب أكتوبر … او حرب الغفران حسب التعبير الاسرائيلي. لهذه الذكرى، في هذه السنة بالذات، اهمّية خاصة نظرا الى انّها توفّر مناسبة للتفكير مليّا بالفائدة من الحروب وبكيفية توظيف نتائجها. وحدها مصر بقيادة أنور السادات، بكلّ ما له وعليه، امتلكت في 1973 رؤية بعيدة المدى تتجاوز، كما حصل في سوريا، الرغبة في حماية نظام اقلّوي. لم يكن لدى ذلك النظام الاقلّوي من همّ، في ايّ يوم من الايّام، غير المتاجرة بفلسطين وتسهيل تحقيق انتصارات على عرب آخرين، بوقوفه مع ايران ضدّ العراق في حرب 1980- 1988، مثلا. هذا ما فعله ذلك النظام الذي يتحكّم بسوريا والسوريين منذ العام 1970.
قبل اقلّ بقليل من نصف قرن، اتفق أنور السادات وحافظ الأسد على شن حرب على إسرائيل بغية استعادة الأراضي المحتلة. ما نجده بعد 46 عاما على آخر الحروب العربية – الإسرائيلية ان مصر استعادت كلّ اراضيها المحتلة، بثرواتها، في حين تكرّس الاحتلال الإسرائيلي للجولان. تبيّن بكل بساطة ان أنور السادات كان يمتلك عقلا استراتيجيا يفكّر في مرحلة ما بعد الحرب.
في المقابل كانت لدى حافظ الأسد رؤية مختلفة تتلخّص بحصول النظام الاقلّوي في سوريا، عن طريق الحرب، على شرعية عربية وداخلية في آن تسهّل عليه متابعة عملية القمع المبرمجة للشعب السوري وصولا الى ما وصل اليه البلد في السنة 2019.
في 1973، عندما اندلعت حرب تشرين، كما يسمّيها السوريون، كان البلد يعاني من الاحتلال الإسرائيلي فقط. الآن هناك الاحتلال الروسي والاحتلال الايراني والاحتلال التركي والاحتلال الإسرائيلي، فضلا بالطبع عن الاحتلال الاميركي لمناطق معيّنة تمتلك ثروات كبيرة شرق الفرات.
من اجل حماية النظام يسهل توظيف الحروب في خدمة الاحتلالات ويهون ذلك من اجل بلوغ هذا الهدف. هذا ما فعله النظام السوري الذي لا يزال يفتخر بالانتماء الى محور «المقاومة والممانعة»، وهو محور على استعداد لاختراع كلّ أنواع الاوهام من اجل تبرير فشله في تحرير شبر من ارض فلسطين او من الأراضي المحتلة من اسرائيل في العام 1967. من لديه ادنى شكّ في ذلك يستطيع التمعّن بمصير الجولان او القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل، بموافقة أميركية، في حين تحوّلت المدينة المقدّسة الى موضوع مزايدات إيرانية على العرب لا اكثر. وهذه مزايدات جعلت ايران تخصّص يوما في السنة للقدس نكاية بالعرب ليس الّا في حين يتصرّف الاحتلال الإسرائيلي على هواه في المدينة من دون حسيب او رقيب…
لعلّ اخطر ما نشهده حاليا هو تبنّي ايران وادواتها النظرة التي امتلكها النظام السوري لمرحلة ما بعد الحرب. لم يرد النظام السوري في يوم من الايّام استعادة الجولان الذي احتلّ في 1967 حين كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع. كلّ ما اراده النظام السوري هو جني ثمار الحرب خارج سوريا، خصوصا بعد توقيعه اتفاق فكّ الاشتباك مع إسرائيل في العام 1974. ابقى القنيطرة، عاصمة الجولان مدينة مدمّرة، بحجة انّها شاهد على الوحشية الإسرائيلية. اليست المحافظة على الدمار منافسة مع الوحشية الإسرائيلية ولا شيء آخر غير ذلك؟
توفّر حرب صيف العام 2006، وهي حرب افتعلها «حزب الله» مع إسرائيل نموذجا لتحويل الانتصارات الوهمية على إسرائيل الى انتصارات حقيقية على العرب، على لبنان تحديدا. هناك رفض واضح للاعتراف بانّ افتعال حرب مع إسرائيل في تلك المرحلة ادّى الى هزيمة ساحقة ماحقة للبنان. لكنّ ما لا مفرّ من الاعتراف به ان «حزب الله» وظّف تلك الحرب من اجل السيطرة شيئا فشيئا على لبنان وتحويله الى مستعمرة إيرانية. لا يدلّ على ذلك اكثر من كشف الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الايراني مشاركته في إدارة تلك الحرب من غرفة عمليات في بيروت. يقول سليماني في مقابلة أجريت معه أخيرا انّه لعب دورا مع عماد مغنيّة، الذي اغتيل في دمشق في شباط – فبراير 2008، في اخراج الأمين العام لـ»حزب الله» حسن نصرالله من بيروت الى مكان آمن.
بلغة الأرقام، قتل في تلك الحرب 1200 لبناني، فيما لم تتجاوز خسائر إسرائيل 120 فردا. قدّرت الخسائر التي لحقت بالبنية التحتية اللبنانية بمليارات الدولارات. على الرغم من ذلك كلّه، هناك من رسم إشارة النصر. كان بالفعل انتصارا على لبنان الذي تبيّن في اللحظة التي اعلن فيها وقف العمليات العدائية بموجب القرار 1701، ان البلد دخل مرحلة جديدة. تتمثّل نلك المرحلة بالرغبة في قطف ثمار اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005. فالهدف من حرب صيف 2006 لم يكن سوى التغطية على جريمة اغتيال رفيق الحريري.
بعد حرب تشرين، شعر النظام السوري براحة ليس بعدها راحة. كان يدخل بين حين وآخر في مفاوضات مع إسرائيل مباشرة، او عبر الاميركيين. لكنّه لم يرغب يوما في تحقيق أي اتفاق من ايّ نوع. كان همّ السادات انقاذ مصر، في حين كان همّ حافظ الأسد انقاذ النظام.
يتبيّن مع مرور كل تلك السنوات ان سلوك النظام السوري صار بحد ذاته مدرسة. ففي المحصلة، مهدّت حرب 1973 للدخول العسكري السوري الى لبنان، وهو دخول استمرّ حتّى نيسان – ابريل من العام 2005. بعد خروج السوري من لبنان، استطاعت ايران ملء الفراغ العسكري والأمني الناجم عن هذا الخروج وصولا الى مرحلة صارت تختار فيها من هو رئيس الجمهورية اللبنانية المسيحي… وهذا ما حصل بالفعل في السنة 2016 بعد اغلاقها لمجلس النوّاب لمدة سنتين ونصف سنة.
لا يزال لبنان الذي يعاني حاليا من من ازمة سياسية واقتصادية وبنيوية لم يسبق له ان مرّ بمثيل لها منذ قيامه في حدوده الحالية قبل 99 عاما، ومنذ استقلاله في العام 1943، يدفع ثمن الانتصارات العربية وغير العربية الوهمية على إسرائيل. لا يزال هناك، خصوصا في طهران، من يريد تكرار الاستفادة السورية، بالمعنى السلبي للكلمة، من مرحلة ما بعد حرب 1973.
لا يزال هناك من يؤمن ان استمرار حال اللاحرب واللاسلم افضل تجارة يمكن ان تمارس في كلّ منطقة الشرق الاوسط والخليج. انّها تجارة حماية النظام بدل حماية البلد. النظام السوري مستعد لكل شيء من اجل الادعاء انّه لا يزال حيّا يرزق في دمشق. وايران تعتقد انّه مسموح بكلّ الالاعيب والمناورات من اجل اثبات انّها لاعب إقليمي… حتّى لو كان ذلك على حساب لبنان وسوريا والعراق وفلسطين واليمن. انّها مدرسة تؤمن، بكل بساطة، بان الانتصار على لبنان بديل من الانتصار على إسرائيل.