Site icon IMLebanon

الروائح والاحتجاجات: إرث رفيق الحريري

ليس ما يجري في لبنان هو ثورة، خصوصاً أن البلد خبير في إجهاض الثورات. الطائفيّة تبقى (أكثر من الطبقة الوسطى) حامي النظام الأبدي ومُخرّب إمكانات البلد الثوريّة. لكن ما يجري في وسط بيروت لا يُستهان به وإن تجاوزته الظروف بعد كتابة هذه السطور. استطاع محتجّون إقلاق راحة الطبقة الحاكمة وإصابتها بنوع من الذعر، وهذا لم يحدث من قبل.

اكتفى لبنان بصراعات بين أهل الساسة وقادة الأحزاب الطائفيّة (كلّها من دون استثناء) بعد ان نجح رفيق الحريري في محطّات عدة في إجهاض كل احتجاج أو حركة نقابيّة عبر التحريض الطائفي المذهبي الرخيص (والطائفيّة هي الملاذ الأوّل والأخير للحريريّة)، وعبر الاستعانة بقوى قمع النظام السوري. كانت الحركة العماليّة في التسعينيات على وشك تحقيق نجاحات سياسيّة قبل أن يقضي عليها الفريق الحاكم (المحظي برعاية النظاميْن السوري والسعودي). وفي هذا المحطة، ما أن شعر الفريق الحريري بالذعر، استعان كعادته برعاته الإقليميّين والدوليّين وبأجهزة القمع التي بنتها تلك الرعاية، وحرّض أهل الأرياف والمناطق بالعصبيّة الطائفيّة. هذا ديدن آل الحريري. مَن ينسى السنيورة عندما خرق البروتوكول المدني في الدولة عندما نشر صوره هو يصلّي (تقي وورع هذا الرجل) في السراي الحكومي.

لم يكن التحرّك الذي بدأ في موضوع النفايات مكتوباً له أن يؤدّي إلى شبه انتفاضة في وسط بيروت. خرجت الأمور من تحت السيطرة – سيطرة المنظمّين (الأوائل) وسيطرة قوى السلطة القمعيّة. كانت الشعارات الأولى محدودة ومائعة وضبابيّة (وغير مُزعجة للسلطة في حدّ ذاتها). إن شعار «طلعت ريحتكم» ليس شعاراً موفّقاً أو جميلاً أو سهل الترداد. يذكّر بالصياغات العاميّة لشعارات وإعلانات من صنع شركة إيلي خوري. ثم من هم المعنيّين في «ريحتكم»؟ من هم المقصودون؟ لماذا لا يُحدَّدون بالاسم؟ ما الغاية من التعمية في بلد لم يعد يحتمل الضبابيّة في توجيه الاتهامات؟ كما أن نزوع الحملة الأولى إلى التركيز على شخص محمد المشنوق – وليس هذا الكلام دفاعاً عنه لأنه لا يستحقّ الدفاع في قضيّة فض عقود بطريقة مشبوهة وتفوح بالفساد – يطرح أسئلة؟ ليس محمّد المشنوق زعيماً طائفيّاً أو رئيس حزب. هو تابع لرئيس الحكومة، والذي بدوره تابع لسعد الحريري، الذي يتبع بدوره لآل سعود.

الأمور بادية للعيان، لكن الحملة الأوليّة تعاملت مع موضوع النفايات على أن محمد المشنوق هو الذي لزّم سوكلين إلى صديقه، وأنه الذي سرق المال والملك العام لينشئ «سوليدير». ونهاد المشنوق هو أيضاً تابع لتابع، لكن الحملة ومنظّموها تعاملوا مع الوزيريْن المعنيّين (أكثر من غيرهما في القضيّة البيئيّة والأمنيّة) كأنهم لا يمثّلون فريقاً سياسيّاً معروفاً. والتعميم في الإشارة إلى «الطبقة السياسيّة» يوحي بتجنّب مواجهة بعض الحقائق في ملفّات الفساد. صحيح أن هناك مسؤوليّة عامّة ترتبط بكل مَن يتمثّل بالسلطة (في الحكومة خصوصاً) لكن القول بأن حزب الله، مثلاً، هو متورّط في سرقة المال العام مثله مثل تيّار الحريري في لبنان مجاف للحقيقة. هذا لا يعفي حزب الله من المسؤوليّة أبداً، ليس فقط عن سنوات تمثيله في الحكومات المتعاقبة، وإنما في سنوات تمثيله في المجلس النيابي حيث جلس متفرّجاً (ومُوافقاً أحياناً) على سياسات الحريري التي أفقرت البلد وحوّلت ثرواته من العام إلى الخاص.

كما ان الحملة حاولت ان تستبطن السياسة عبر إجهار موقف «ممنوع التسييس». إن شعار عدم التسييس هو أسوأ أنواع التسييس لأنه تسييس مبطّن يخفي محاولة الدفاع عن فريق ما في السلطة والفساد. لا يحتاج المرء إلى تحليل ماركسي كي يكتشف ان رفيق الحريري هو الذي أرسى دعائم وأركان النظام اللبناني الحالي الفاسد (وبرعاية النظاميْن السوري والسعودي) منذ عام 1992، وبمشاركة وتأييد من الحكومة الأميركيّة والاتحاد الأوروبي وحتى مكاتب الأمم المتحدة التي سمح لها الحريري بإقامة وزارات خفيّة داخل الوزارات (وهذا ما كان الأمر عليه في حكومة سليم الحص القصيرة في عهد لحّود، حيث عطّل فريق السنيورة ــ الأمم المتحدة مشاريع وخطط جورج قرم في وزارة الماليّة). كيف يمكن شنّ حملة على الفساد وتعرية هيكل الفساد من دون ذكر اسم رفيق الحريري؟ الذين واللواتي شوّهوا صور رفيق الحريري في وسط بيروت وكتبوا عليها «سارق» لم يخطئوا العنوان بتاتاً. أي محاولة لمحاربة الفساد من دون فتح ملفّات الحريريّة هو مشروع ناقص أو فاسد بدوره. حاول التيّار العوني ان يفتح الملف لكنه سرعان ما خسر المصداقيّة عندما قايض مقابل الرئاسة، وعندما تحوّل من شعار «التغيير والإصلاح» إلى شعار «حقوق المسيحيّين» (والتي لا يمثّلها خير تمثيل إلّا الصهر). (من المُضحك ان يعترض آل الحريري أو آل جنبلاط، وأتباعهم، على وراثة المناصب).

لكن نظام الفساد لا يكتمل من دون مشاركة عابرة للطوائف إذ ان رفيق الحريري كان يحتاج في بداية حكمه إلى مشاركة من الميليشياتيْن اللتيْن كانتا تتحكّمان بمصير بيروت الغربيّة آنذاك. فكان أن الحريريّة (وهي عنوان النظام اللبناني الفاسد من دون مداورة أو محاباة) تشاركت مع متفرّعيْن، تمثّلا في الزعيميْن، نبيه برّي ووليد جنبلاط. إن محاولة تجنّب تسمية الأشياء بأسمائها أدّت إلى حدوث انشقاقات في أوساط المحتجّين وبروز حركات اعتراض أكثر جذرية خصوصاً أن الحملة الأولى لم تتبع الشفافيّة: مَن انتخب مَن في الحملة؟ كيف اتخذت القرارات؟ من اختار المجموعة التي اتخذت القرارات؟ من إختار مَن يتحدّث إلى الإعلام؟ هذه الأسئلة كان يجب ان تكون لها أجوبة في حملة تحارب الفساد وتطلب من الحكومة ممارسة الديمقراطيّة والشفافيّة. وشعار المُجتمع المدني بات يخفي أكثر مما يكشف، خصوصاً وان الحكومات الغربيّة ترى في منظمّات المجتمع المدني في دول العالم، خصوصاً تلك الدول التي لا تطيع الولايات المتحدة، آليّات وأدوات لها. لكن هل تجرؤ دول الغرب على تمويل منظمّة غير حكوميّة واحدة في مملكة القهر السعوديّة؟ أما في الأردن، فهي تدعم بعض المنظمّات التي تماشي مصلحة النظام.

والمطالب الأولى والثانية للحملة كانت محدودة جدّاً. المطالبة بمحاسبة المسؤول عن إطلاق الرصاص، أو المطالبة بتحديد مُطلق النار هي أيضاً شعارات مُواربة، ويمكن – عن قصد أو عن سذاجة – أن تؤدّي إلى حماية المسؤول. ليس هناك من لغز عن مسؤوليّة إطلاق الرصاص وعن مسوؤليّة الفساد البيئي الذي أحدثه تراكم النفايات: إن المسؤول الأمني الأوّل في الحكومة هو وزير الداخليّة (والذي تمتّع طوال فترة حكمه بحالة من الغزل المتبادل بين وبين الإعلام) والمسؤول عن وزير الداخليّة هو رئيس الحكومة والحكومة مُجتمعة، بصرف النظر عن شخصيّة مُطلق النار. والشيء نفسه ينطبق على وزير البيئة. كان يجب على حركة الاحتجاج ان تطالب بإسقاط الحكومة كمقدّمة لتغيير النظام الفاسد الذي تحدّثت عنه. لكن حدود وسقف التحرّك الأوّل كان محدوداً جدّاً، وأوحى بأن إنهاءه يتطلّب تفاهماً بسيطاً مع الحكومة. وهناك مَن ربط الشعارات المحدودة الأولى بإجراء عقود بشفافيّة ونزاهة، كأن النظام الفاسد قادر على إصلاح نفسه، بنفسه ومن الداخل. حتى مطلب إجراء انتخابات نيابيّة جديدة لن يحلّ في شيء: فالنخبة الطائفيّة الحاكمة قادرة على تجديد نفسها عبر مَن تختاره من الممثّلين، أولاداً لهم أو أحفاداً، فيما إذا قرّرت هي العزوف عن السلطة – لكن ليس تعفّفاً مثل حالة وليد جنبلاط الذي يعدنا مرّة كل عشر سنوات بأن سيتقاعد من العمل السياسي.

لكن الحملة الأولى تخبّطت واضطربت ووقعت في حيص بيص بعد ان تعاملت أجهزة السلطة بقمعيّة ووحشيّة لم تكن تتوقّعها. ظنّت الحملة انها تتعامل مع الحكومة السويديّة (حتى في السويد، فإن الحكومة أدينت هناك بإجراء «تعقيم قسري» من أجل تحقيق «صفاء عرقي» ومكافحة الجريمة بين سنوات 1934 و2012، حتى لا نذهب بعيداً في تأليه حكومات إسكندنافيّة). ولم يكن طريفاً ان بعض اللبنانيّين الذين واللواتي يعانون من جهل بالتاريخ اللبناني المعاصر أو (و) من العنصريّة لاموا «السوريّين» على قمع السلطة، أو ظنّوا ان النظام اللبناني تعلّم القمع من النظام السوري فيما ان النظام اللبناني عريق في القمع والوحشيّة وإطلاق الرصاص على الطلاب (حتى في حقبته «الذهبيّة» التي تسمّيها «النهار» بـ «الزمن الجميل»). هذا نظام قصف بالطائرات المخيّمات الفلسطينيّة في عام 1973، وضرب معتقلين حتى الموت في زنازينه، وأدخل دبّاباته إلى حرم الجامعة الأميركيّة في عام 1982 لمنع قيام تظاهرات ضد العدوّ الإسرائيلي، وأطلق الرصاص على العمّال والطلاب، وجرائم المكتب الثاني والمخابرات اللبنانيّة ليست موثّقة للأسف (سامي الخطيب، أداة النظام السوري العريقة قبل أن يتحوّل إلى داعي «حريّة وسيادة واستقلال»، رمى ذات مرّة عبدالله سعادة من أعلى الدرج في مكتب الأمن العام ومارس التعذيب بيديْه وقدميْه على سجناء الحزب السوري القومي الاجتماعي). لا، النظام اللبناني لا يحتاج إلى دروس من أحد في مادة التعذيب والقمع الوحشي وإطلاق الرصاص على المدنيّين. حفلة مجزرة نهر البارد لا تزال ماثلة في العيان.

لكن الانتفاضة تغيّرت في اليوميْن اللذيْن تليا اندلاع الاحتجاج. تعدّدت القيادات والتنظيمات المُشاركة وأصبحت قيادة التحرّك لا مركزيّة، وهذا حسن طبعاً.

لكن قيادة «طلعت ريحتكم» لسبب لم تشرحه إلى الآن، بدأت برفع الصوت ضد «زعران» و«عناصر شغب» و«مندسّين» – وهذه المصطلحات تصدر عادة عن أنظمة تسلطيّة ضد المعترضين والمُحتجّين، لا بل لجأت إلى دعوة القوى الأمنيّة إلى التدخّل لاقتلاع هؤلاء المندسّين الذين لا يمتّون بصلة إلى الاحتجاج. لكن مَن يُحدّد مَن يمتّ بصلة ومَن لا يمتّ بصلة؟ ما هو المعيار؟ ندى أندراوس عزيز، في محطة «إل. بي. سي» (البشيريّة، دائماً وأبداً) حدّدت معيارها على الهواء: قالت إن هؤلاء الزعران لا يبدون على أنهم طلاّب أو معلّمون أو ناشطون». يبدو انهم لم يأتزروا بقمصان «بولو» كعلامة فارقة للناشط في المجتمع المدني في لبنان. يزبك وهبة قال ساخراً إن عراة الصدور لا يبدون «مثقّفين»، كأن المثقّفين فئة يُعتزّ بها. إعلاميّة أخرى في المحطّة نفسها توصّلت إلى استنتاج بوليسي على الفور، وقالت إن المندسّين ينتمون إلى «جماعة الخندق الغميق» (تحدّثت عنهم كأنهم حزب حديدي منظمّ)، وأنها تعرفهم من أشكالهم. (هي عادت واعتذرت عن التعليق بعد يوميْن، وقالت إنه لم يخطر لها ان في تعليقها مناحي عنصريّة وطائفيّة – أي ان المصيبة أكبر إذ انه «لم يخطر» لها). وإذا كانت حركة مدنيّة ديمقراطيّة تصنّف المواطنين بهذه الطريقة قبل ان تصل إلى السلطة، فهي تعدنا بقوانين تشبه قانون «وهن روح الأمة» في سوريا أو قانون «إطالة اللسان» في الأردن. حاولت نوال برّي ان تفنّد التنميط الطبقي والطائفي وأعدّت تقريراً عن الخندق الغميق أنهته بأن «العنف أصبح جزءاً من ثقافتهم». جزء من ثقافتهم؟ والأثرياء الذين كانوا يمضغون السيغار الفاخر ويحتسون الويسكي ويؤجّجون العدوّ الإسرائيلي مباشرة أو بالواسطة عبر السفير الأميركي، أليس العنف في ثقافتهم؟ أليس العنف متأصّل في ثقافة كل من صفّق لـ«عاصفة الحزم» التي رجعت باليمن نحو قرن من الزمن، وبصمت من الأمم المتحدة لأن الحكم السعودي مارس الابتزاز عليها، كما كتب جو لوريا، مراسل «وول ستريت جورنال» في الأمم المتحدة؟

وهنا تصاعدت النظريّات وانفرط عقد المحتجّين (الأوائل، على الأقل). ودعوة القوى الأمنيّة إلى اقتلاع محتجّين من منطقة فقيرة لها تداعيات ومضاعفات وخيمة: بدا وكأن هناك من أراد ان يُشرّع لعنف السلطة بوجه الفقراء من المُحتجّين، وكانت علامتهم الفارقة هي الصدور العارية (أي ان قميص الـ «بولو» لم يكن بادياً وهو اللباس الرسمي للمجتمع المدني في لبنان). وهناك مَن أوحى من قيادات «المجتمع المدني» (ما غيره) أن «الزعران» كانوا – وفق خبريّة أو وشاية مرجع أمني لهم – مخمورين، يا للهول! هؤلاء الذين يتحدّثون عن الحريّات الشخصيّة ليل نهار باتوا يعتبرون آثار الخمر (الحقيقيّة لا الخياليّة) على شباب محتجّين (وليس على وزراء، مثلاً) دليلاً قاطعاً على الجرم. ألستم أنتم محبّو الحياة الذين تعترضون على حزب الله لأنه لا يسمح لكم بحب الحياة لأنه يستدعي إسرائيل الحنونة والوادعة كي تجتاح لبنان؟ واتهام الفقراء باحتساء الخمر دفع بالقوى الأمنيّة ليل الثلاثاء ــ الأربعاء لأخذ عيّنات من البول بهدف إثبات جرم شرب الخمر لأنه يثبت تهمة الانتماء إلى «امل» أو حزب الله؟

كان ملائماً لهم ان مؤامرة من حركة «امل» هدفت إلى التخريب على الحركة. لم يشرح أحد كيف يمكن تمرير مؤامرة كهذه، خصوصاً أنه كان يمكن لها ان تطيح بالنظام اللبناني برمّته وان تؤدّي إلى تخريب المصالح الاقتصاديّة في وسط بيروت. الأثرياء لا يجازفون بمصالحهم وثرواتهم: هم على العكس الذين ليس لديهم ما يخسروه إلا القيود، أو الخيمة على قول العظيم جورج حبش. لكن شرخاً طبقيّاً ظهر الى السطح: هناك مَن لم يتعوّد على الاحتكاك بالفقراء خصوصاً من الطائفة الشيعيّة المُخيفة (والكريمة، كما يضيف الطائفيّون في لبنان في حديثهم عن طوائف أخرى). لكن مَن تحدّث مع بعض هؤلاء قال إنهم كانوا غاضبين بالفعل وأنهم لم يأتوا بإيعاز من أحد، وأنهم غاضبون على «امل» وقيادتها (كما أن كثيرين من جمهور حزب الله غاضب على القيادة السياسيّة بشأن الملفّات الداخليّة التي لم يميّز حزب الله نفسه عن غيره فيها، لا بل ان محمد فنيش قدّم مشروعاً لتخصيص الكهرباء نال استحسان الحريريّين في الدولة)، والوضع المعيشي في الخندق الغميق مزر أكثر من الوضع المعيشي في الرابية او فردان. كاد منظمّو الاحتجاج الأوّل ان يرفعوا لافتات لمنع قاطني وقاطنات المناطق الشعبيّة في لبنان من الاقتراب من التظاهرة. يُمنع على المشبوهين من الطبقات الفقيرة «الاندساس» في جموع الطبقة المتوسّطة التي تحاول جاهدة الانضام إلى طبقة الأثرياء.

النخبويّة الطبقيّة والشوفينيّة الفينيقيّة تفعل فعلها في المحطات السياسيّة. محطة «الجديد» (وهي كانت متحمّسة في دعم الاحتجاج في بدايته وشارك مراسلو ومراسلات المحطة في الاحتجاج) وموقع «التيار» نشرا على موقعيهما ليلة الثلاثاء ــ الأربعاء (أي في الليلة التي أمرت سفارات السوء في لبنان الإعلام اللبناني بالتعتيم على قمع قوى الأمن وعلى مظاهر الاحتجاج) تحت عنوان «هؤلاء هم مثيرو الشغب» «خبراً» منقولاً عن جريدة إلياس المرّ يقول ان «بين مثيري الشغب شبّان من الخندق الغميق وحيّ اللجا والباشورة ومن البقاع، ومن بينهم أيضاً غير لبنانيّين، وتم التعرّف إلى سوريّين وفلسطينيّين وسودانيّين» (لماذا حشر السودانيّين في الاتهام، كما كان حزب الكتائب يتهم الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والمقاومة الفلسطينيّة بالاستعانة بمرتزقة صوماليّين؟ هل بسبب البشرة السوداء؟).

لكن السلطة وقعت في تخبّط كبير وأظهرت عجزاً وارتباكاً ووقعت كعادتها تحت ضغط السفارات الأجنبيّة (كان أوّل مسؤول يستقبله تمّام سلام بعد الاحتجاجات الأولى هو السفير الأميركي مصطحباً نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي). وبالرغم من أن الفرق الاحتجاجيّة في وسط بيروت لم ترفع شعارات السياسة الخارجيّة (وهو خطأ كبير في كل الاحتجاجات العربيّة الفاشلة). ليس هناك من نظام هو وليد سيطرة أجنبيّة أكثر من النظام اللبناني: كان واقعاً تحت سيطرة من النظاميْن السوري والسعودي في حقبة الحريريّة وأصبح خاضعاً في شخص رئيس الحكومة الحريري لسلطة التفاهم السعودي-الأميركي في السيطرة على لبنان. إن قوى الأمن اللبنانيّة (وهي ليست أكثر من ميليشيا بيد عائلة الحريري، كما ان شركة مجلس النوّاب هي ميليشيا غير رسميّة لحركة «امل») تتلقّى تدريباً من الحكومات الغربيّة، كما ان وسائل قمعها وقتلها مُستوردة أم هي مكرمات أميركيّة أو أوروبيّة. إن تنصيب الجدار الإسمنتي كان بنصح من ملحق عسكري في سفارة غربيّة على الأرجح.

والاتهامات كانت مُحيّرة في الإعلام اللبناني: بعد وفود محتجّين من الخندق الغميق، انتشرت نظريّة تسرّب عناصر مُخربة من «امل». لكن التهمة لم تطل: يبدو ان الحلف الوثيق بين نبيه برّي وجنبلاط والحريري لم يتحمّل تحميل المسؤوليّة إلى نبيه برّي فانتقل الإعلام السعودي والحريري والقطري من اتهام «امل» إلى اتهام حزب الله، والهتاف الشيعي كان وحده إدانة دامغة للحزبيْن. وتراوحت النظريّات بين مَن يتهم الحملة بأنها مشروع اميركي وآخر يتهم الحملة بأنها مشروع لحزب الله في لبنان (لكن ظننا ان رجال حزب الله يظهرون بالقمصان السود؟).

لكن الطبقة الوسطى ومنظمّات المجتمع المدني (الحريص عليها) لن تحقّق إصلاحاً، وهي حتماً لن تقوم بثورة. الطبقات الوسطى تحافظ على النظام القائم وهي تسعى إلى تجميل النظام لتجعله أكثر قبحاً وأكثر قوّة. إن الفقراء والمندسّين والمُخرّبين و«عناصر الشغب والفوضويّين» – بلغة جريدة خالد بن سلطان، «الحياة»، هم الذين يقلبون الأنظمة بالقوّة، وهم الذين يقومون بالثورات. هؤلاء لا يحتاجون لإيعاز أو أوامر للتمرّد على سلطة ظالمة وللاحتجاج على سلطة ظالمة ووحشيّة. «الزعران» يقتحمون الأسوار فيما يقبع ناشطو وناشطات المجتمع المدني خلف أسوار المنازل بانتظار قطف نتائج أفعال ما كانوا يسمّونه في الثورة الفرنسيّة بـ«البلا كيلوت»، مثل تعيير المُحتجّين الفقراء لأنهم كانوا عراة الصدور، وأصبح عري الصدر تهمة يُعاقب عليها.

إن هذه لحظة ثوريّة، أو حبلى بالاحتمالات الثوريّة، وقد لا تتكرّر. المفاجأة ان جمهور الأحزاب (الشيعيّة وغير الشيعيّة) هجر الأحزاب السائدة نحو أمل التغيير الجذري بعد ان ضاق ذرعاً بالفساد المستشري، وبعد ان فقد الأمل في إمكانيّة التغيير الإصلاحي من الداخل. والتحدّي يكون في التعلّم من تجارب الحركة الوطنيّة اللبنانيّة التي في أكثر من مفصل أجهضت محاولات التغيير الجذري طمعاً بالإصلاح التجميلي من داخل النظام لأن قائدها (كمال جنبلاط وابنه من بعده) كان من صلب النظام التي كانت تدعو إلى تغييره. لكن تجربة الحركة الوطنيّة تحتاج لبحث منفصل.