خلال القرن التاسع عشر، كانت الإمبراطورية العثمانية تعيش تفككاً في سلطتها على المناطق التي تقع خارج سيطرتها المركزية، كما كانت انتفاضات الاستقلال عنها متكاثرة، بحيث أن وحدتها كانت سائرة الى زوال. أطلقت الدول الأوروبية تعبير «الرجل المريض» على هذه الإمبراطورية، وسعت الى منع هذا المريض من الوفاة، قبل أن تتم مقاسمة ثروته.
فرضت الوفاة على العثماني عندما توافقت الدول الغربية على اقتسام تركته بعد هزيمته في الحرب العالمية الأولى. فهل تختلف حال النظام السوري في هذه المحطات من حياته عن حال الإمبراطورية العثمانية؟ ألا تتـشابه مسالك الدول الغربية والإقليمية في منع سقوط «المريض» السوري ووفاته قبل أن تكتمل الاتفاقات على الحصص والترتيبات اللازمة لها؟
تتكاثر هذه الأيام المؤتمرات الدولية تحت تسمية التسوية للحرب السورية وإيقافها، من مؤتمر فيينا الى مؤتمر نيويورك، الى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب. لعلّ القرار الأخير الصادر عن مجلس الأمن رقم 2254 يُعتبر أهم النتائج التي توّجت هذه المساعي الدولية. لا يجب التسليم بخفة أن هذا القرار الإجماعي عن المؤسسة الدولية هو الترياق الشافي لحل الأزمة. إن أقصى ما يمكن أن ينتج من هذا القرار هو إدارة مديدة للأزمة من جانب المكونات الدولية، بما لا يميت المريض ولا يؤدي الى شفائه في الوقت نفسه. فالقرار يحمل التناقضات المانعة للحل، فلا اتفاق على موقع رأس النظام، ولا اتفاق على طبيعة المرحلة الانتقالية، ولا على المرجعية الأساس التي كانت مقررات جنيف 2012 مصدرها. أما التناقض الأكبر فهو المتعلّق بوقف إطلاق النار، فمن هي القوى المعنية بالأمر، وما هي القدرة على إلزام هذا الطرف أو ذاك؟ لعلّ الموقف الأميركي، الذي هو الطرف الرئيسي مع الروسي، يشكل أبلغ تعبير عن الارتباك في الموقف الدولي. مرة يعلن الأميركي ألا مكان للأسد في أي مرحلة انتقالية، ثم يعود الى تجاوز هذا الموقف نحو القبول، وها هو الرئيس الأميركي يصرّح بعد قرار مجلس الأمن بضرورة أخذ مصالح روسيا وإيران في الاعتبار والتشديد في الوقت نفسه على رحيل الأسد، ما يعني أن التوافقات النهائية ما زالت محل أخذ ورد، ولا إمكان راهناً للحسم في إنهاء الأزمة.
تحت سقف المداولات الدولية بين أصحاب المصالح الكبرى كانت، تجري ولا تزال، عمليات جراحية في قلب الكيان السوري عنوانها اللعب بالديموغرافيا وتهيئة الأرض السورية لوقائع جديدة يمكن فرضها عندما يحين أوان البت بمصير «الرجل المريض». لعل أهم هذه الجراحات الجارية على يد روسيا وإيران، تلك التي تحاول رسم معالم تقاسم للجغرافيا السورية بما يتوافق مع مصالح هاتين الدولتين.
لم يعد خافياً أن إيران والميليشيات التابعة لها تسعى منذ تدخلها، الى خلق مناطق نفوذ استناداً الى تهجير عرقي قسري وتغيير في الديموغرافيا لبعض المناطق، بما يكرس مذهبيتها المتوافقة مع المذهبية الإيرانية. يهدف هذا التغيير الى وجود شريط جغرافي ممتد من العراق الى سورية ولبنان، يشكّل خلفية النفوذ الإيراني في تلك البلدان. الجديد الذي بدأت تتـنـاقـله مصادر دولية، يتحدث عن أن الهدف الإيراني يتركز على مناطق القلمون وما يجاورها، بالنظر الى احتمال كبير لوجود حقول غاز ضخمة في تلك المناطق، وهو واقع تراه إيران حيوياً جداً لمصالحها السياسية والاقتصادية.
في المقابل، يبدو الاندفاع الروسي والنزول بترسانته العسكرية الثقيلة مرتبطين أيضاً بمصالح جيواستراتيجية واقتصادية، من بينها مسألة الغاز وأنابيب النفط بعد الصراعات الروسية التركية وضرورة إيجاد بدائل لخطوط النفط، الى جانب الوجود الروسي في المياه الدافئة للبحر المتوسط. تتقاطع المصالح الإيرانية والروسية في هذا المجال عبر العمليات العسكرية التي تقوم بها روسيا بعيداً من الادعاءات في قتال تنظيم «داعش»، وتركيز القصف على المعارضات المعتدلة وقواتها العسكرية، بوصفها الخطر الحقيقي على نظام الأسد وليس إرهاب «داعش» أو «النصرة» المحميين عملياً من النظام.
عندما يتحدث الرئيس الأسد بثقة عن بقائه في السلطة وعن تقرير السوريين مصير النظام، فإنما ينطلق من إدراك عميق أن حجم التدويل الذي وصلت إليه الأزمة السورية، وبانت فيه بوضوح صراعات القوى الدولية على سورية ومن خلالها على الإقليم وعلى مناطق دولية من قبيل سورية مقابل أوكرانيا… هذا التدويل وعدم الحسم في تقاسم المصالح والنفوذ، هما العنصر الرئيس في بقاء النظام ورأسه. وهي حقيقة بمقدار ما تدخل الغبطة الى النظام، بمقدار ما تلقي بثقلها على الشعب السوري الذي سيظل يدفع من دمه ثمن إدارة الصراعات بين القوى الإقليمية والدولية على بلده، وهي تراجيديا لا قعر مرئياً لها.