الفتنة مغرية. لولا ذلك لما سُميت فتنة. ليس أقلّه أن شرقنا بات يعج وفي وقت واحد بأنماط مختلفة من التصادم المذهبي الذي ما عاد يعيب على نفسه صفته تلك، وهذا التصادم المذهبي يزدان بأسماء جماعات عديدة، متفاوتة سواء في الموقع أو في التحيّز أو في الأسلوب، لكنه لا يمكن وصف حال التصادم المذهبي الحاصل في كل هذه البلدان في وقت واحد إلا بها، من «داعش« إلى «النصرة«، ومن «عصائب أهل الحق« و«سرايا طليعة الخراساني« إلى «حزب الله« وصولاً إلى جماعة «أنصار الله« الحوثية التي استولت في الساعات الأخيرة على مؤسسات ومرافق حكومية في العاصمة اليمنية.
تصادم مذهبي إقليمي لا يمكن بطبيعة الحال اختزال كل شيء فيه، لكنه يصل نفسه بنفسه بالساحات الأخرى للتصادم وسفك الدماء، كما يحدث بالنسبة لأكراد الشمال السوري السنّة، على يد مسلّحي تنظيم «داعش«، وكما حدث من قبل لمسيحيي الموصل وأيزيديي سنجار على يد التنظيم نفسه. يتّسق المذهبي مع الإثني حيناً، وينشطران حيناً آخر، ويضعاننا أمام واقع مرير وهو أن هذه المجتمعات المتصدّعة عندما يحلّ بها التشظي فهي لن تتحلّل إلى بنى أهلية تقليدية تسيّر حالها بحالها، كالقبيلة مثلاً، بل إنّ التدمير يطاول البنى الاجتماعية نفسها، فلا أهل المدن يبقون في مكانهم، ولا أهل الريف، ولا أهل البوادي، والمشكلة الأساسية اليوم، أن المأساة الإنسانية السورية، المتمثّلة بالنزوح الداخلي والنزيف السكاني باتجاه البلدان المجاورة والبعيدة، قد أخذ يرتسم كأفق يتهدّد مجتمعات أخرى في المنطقة، فكل القيل والقال حول إعادة رسم الخرائط يبقى بلا سند قبل لحظ ما يجري من الموصل إلى صنعاء على صعيد الجغرافيا السكانية، سواء على الصعد الإثنية والمذهبية، أو على صعيد البنى الاجتماعية والاقتصادية ورباعية البوادي والأرياف والضواحي والمدن.
الفتنة مغرية. مغرية كتيار البحر الذي يشدّنا اليه. التيار يوهم الغارق العتيد بأنه سبّاح ماهر. كذا الفتنة. تراث كامل من «التقريب بين المذاهب« ومن «قطع دابر الفتنة« يتبين الآن أنه لعب دوراً كبيراً في إعادة تصدير إغراءاتها، ذلك أنه بمجرّد الوقوع في منزلق من نوع «الفتنة هي الآخر«، وبمجرّد المكابرة على الواقع الإثني والمذهبي عند مقاربة المسائل المتصلة بالسياسات الإقليمية والدولية، وبمجرّد الاستخدام الاعتباطي لمفردة إرهاب لوصم بيئات أهلية بحجة أنها «راعية« و«حاضنة« نكون أمسينا في عرض البحر.
خطْف العسكريين على يد «داعش« و«النصرة« هو محطّة خطيرة على طريق هذا الإغراء. بل إنه طرح على اللبنانيين إغراءين. إغراء إحياء الشعور بالوطنية اللبنانية، التي تبدأ من التنبه بأن الوضع اللبناني على كل سيئاته مختلف عن مجال الحرب الأهلية السورية العراقية رغم انقسام اللبنانيين حولها، ورغم محاربة قسم منهم، «حزب الله« تحديداً لمصلحة فئة ظالمة فيها. وفي المقابل، تمثّل الإغراء الثاني، بالتفكير بأني، أنا الممانع المهدوي في لبنان، ليس عليّ أن أخفي الطابع الذي بات نافراً للتصادم المذهبي أكثر مما يخفيه أخوتي في «عصائب أهل الحق« و«سرايا طليعة الخراساني« و«الحوثيين«.
إغراءان متناقضان، لكن أيضاً، يحاذر أن يأتي أحدهما كقناع للأول، فالوطنية اللبنانية لا تكون إلا بانتماء الوطن كلّه إلى عرسال وتثبيت حق أهلها في العيش الكريم والهادئ مع البلدات المجاورة، ولا تكون الوطنية اللبنانية بالموقف الانفعالي – المستكبر بإزاء المستضعفين من اللاجئين السوريين، ولا تكون بتضييع الترابط الواجب بين ما هو سياسي وما هو أمني لمعالجة قضية خطف عسكريين من مختلف الطوائف والمناطق على يد مسلّحين يتخذون من الصراع المذهبي عقيدة لهم «كي لا تكون فتنة«!
الفتنة مغرية. منظر «الدول الجديدة« من إمارة الموصل إلى إمارة الحوثيين يغري بالانتقال إليه. كابوسيته لا تحجز إغراءه. إغراؤه يتهدّد كل صاحب سلاح وتعبئة، وكل من يتعامل مع التاريخ بذهنية ثأرية فيعيد صراع الواقع السياسي الحالي لجذور ترجع الى قرون الى الوراء.