IMLebanon

من «المسألة الشرقية» إلى المسألة العونية

لكل عهد رئاسي مؤيدون ومعارضون ومتحفظون. فلا مسار انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية كان عادياً، كما أن أوضاع البلاد، الداخلية والخارجية، خارجة عن المألوف الذي ساد العقود الأخيرة.

فعندما يُنتخب الرئيس بأصوات من هم في مواقع متعارضة، وعندما يتم ذلك جهراً وبلا كلمة سرّ من مصدر مجهول ـ معلوم، نكون أمام حالة تصل الى حدّ المسألة التي لم تعهدها الانتخابات الرئاسية من قبل.

في دليل المسائل المعاصرة تأتي «المسألة الشرقية» في الصدارة. وهي صراع بين دول في القرن التاسع عشر مع تراجع نفوذ الإمبراطورية العثمانية وتنافس الدول الأوروبية الكبرى في ما بينها على تركة «الرجل المريض». أما المسألة العونية فهي صراع بين قوى سياسية يستنجد بعضها بدول لم تعد معنية بتركة لبنان الدولة، قياساً إلى مراحل سابقة، وفي زمن النزاعات الإقليمية المحتدمة.

في أي موقع كان، ميشال عون، العسكري أو السياسي، حالة غير مألوفة: في زمن الحرب، في سنواتها الأخيرة تحديداً، وفي المنفى في مرحلة الوصاية، وبعد العودة في 2005 عندما لم يعد لبنان ساحة وحيدة للنزاعات الإقليمية. وعلى رغم من هذه التحولات، تبقى الحالة العونية نتاجاً محلياً بامتياز.

العماد عون، المطالِب بانسحاب الجيش السوري والمعترض على تغييب السيادة في اتفاق الطائف، اصطدم مع قوى إقليمية ومحلية لها مصالح حيوية في لبنان وارتباطات متنوعة. وحتى بعد انسحاب الجيش السوري وتبدّل موازين القوى، ظل العماد عون رقماً صعباً في المعادلة السياسية.

لم يبقَ محور سياسي إلا وأُلصق بالعماد عون. فتارة هو حليف سوريا وإيران، وتارة أخرى خصم السعودية والغرب، وفي معظم الأحيان يؤخذ عليه تحرره من التبعية لمصلحة وطنية لبنانية «زائدة عن اللزوم». ميشال عون، قبل الرئاسة وبعدها، صاحب قرار في المفاصل الصعبة وحليف مبادئ وقناعات لها «لون ورائحة وطعم».

سياسة الإقصاء بعد الانتخابات النيابية في 2005 تم تجاوز مفاعيلها بعد التحالف مع «حزب الله» في 2006. ومن جديد، أصبح العماد عون حالة غير منضبطة، بنظر المعترضين، بسبب هذا التحالف الذي لم يكن في الحسبان.

وجاءت الانتخابات النيابية في 2009 فرصة متاحة لإسقاط الحالة العونية المصنّفة من الخصوم آنذاك في خانة «ولاية الفقيه». معركة 2009 الانتخابية تجنّد لها كثر واستُعملت فيها كافة الأسلحة المالية والإعلامية، ولم تأت بالنتيجة المرجوة بالنسبة الى مناوئي الحالة العونية.

أما الشغور الرئاسي فلم يكن بلا مردود: مصالحة فعلية بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية وطيّ صفحة الماضي، وأخيراً تلاق مثمر مع الرئيس سعد الحريري. وإذا أُضيف الى المعادلة «حزب الله»، يكون الرئيس المنتخب قد جمع الأضداد، وهذا أمر مشروع، بل مطلوب في هذا الظرف بالذات.

الواقع أن لكل انتخابات رئاسية ظروفاً ومعطيات. الأمثلة عديدة وسنكتفي بالإشارة الى حالتين. بعد أزمة 1958 برز قائد الجيش فؤاد شهاب مرشحاً توافقياً في إطار تسوية مدعومة داخلياً وخارجياً. وفي 1976 كان الياس سركيس مرشح الضرورة في محطة عكست موازين القوى السياسية والعسكرية في البلاد.

ليس في يد الرئيس الجديد عصا سحرية لإيجاد حلول ناجعة لكافة مشاكل البلاد المزمنة في ظل التجاذبات القائمة. إلا أن لديه الإرادة أن لا يكون النمطُ الرئاسي في الحكم الذي ساد مراحل سابقة نموذجاً يحتذى. لن يحيد الرئيس ميشال عون عن ثوابت القانون والدستور، ولن تكون الكيدية وسيلة لأي غاية.

الاستقلال الثاني الذي انطلق في 2005 يُستكمل اليوم على قاعدة الشراكة المنصفة. والمطلوب أن تكون أيضاً منتجة. الحماية الآن داخلية بالدرجة الاولى: حماية العيش المشترك وإبعاد النزاعات الاقليمية عن الداخل اللبناني. لبنان اليوم لا يشبه لبنان منتصف السبعينيات لسببين أساسيين: إرادة أطراف الداخل الأكثر نفوذا بالابتعاد عن الفتنة الداخلية، وعدم حاجة أطراف الخارج لاستكمال حروبها في لبنان.

المسألة الشرقية انتهت منذ نحو قرن وتفرّق أركانها لتحلّ مكانها اليوم مسألة مشرقية (نسبة الى المشرق)، لا تقل وطأة وتعقيدا عن المسألة الأساس.

المسألة العونية انطلقت من موقع الحكم لتتحول مسألة لبنانية، علّها تكون الضوء في نهاية النفق، فلا تضيع ولا تضيع معها الدولة وركائز الوطن. إنه عهد صاحب القسم بمسؤولية وإرادة والتزام. وفي «العهد الجديد»، كلام حاسم: «فإن فسد الملح فبماذا يملّح».