ربما يستحق اللبنانيون كل هذا الوجع الذي يحل بهم، نتيجة لعملية الجلد اليومي لأنفسهم، بسبب المحن التي تواجههم كيفما أداروا وجوههم، وجالوا بأنظارهم، من قمة الهرم الى قاعدته. وقد انحسرت النقاط المضيئة تباعاً على مر العهود، والمساحات الرمادية المتعاظمة التي حجبت بقايا الأضواء، بدأت تتحول هي نفسها الى اللون الداكن، فإلى السواد الفاحم! والأدهى من كل ذلك أن الأزمات تزداد تعقيداً مع مرور الوقت، ولا تظهر بوادر حلول، لا في الأفق القريب وعلى المدى المتوسط أو البعيد. وتعاظمت أحجام كل أزمة على حدة، الى درجة أن الطبقة السياسية – داخل الحكم وخارجه – لم تعد قادرة على الإحاطة بها وادراك حقيقتها. وبدا المشهد العام أشبه بمجموعة من العميان يتحلقون حول الفيل، وكل منهم يصفه بحسب الموقع الذي لمسته يداه، وكل وصف يختلف عن الآخر، ومجموع الأوصاف يشبه أي شيء ما عدا الفيل!
ولعل اللبنانيين – حكاماً ومحكومين – يحتاجون الى شيء من الثقة بالنفس، حتى يتوقفوا عن جلد أنفسهم، والانصراف الى ايجاد الحلول.، ومما قد يساعد على ذلك، النفاذ الى العمق لرؤية حقائق مضيئة حجبها المشهد العام السوداوي. ومنها أن المنطقة العربية، من الجوار اللبناني القريب والى أبعد النقاط فيها، غارقة في غالبيتها بالدماء والدمار والاقتتال، في حين أن لبنان هو الاستثناء شبه الوحيد في هذا المشهد البانورامي. وعلى الرغم من الشلل وطوفان الفساد الذي يغرق لبنان، فلا تزال الأصوات ترتفع والحراك الشعبي يستمر، والانتلجنسيا اللبنانية بمختلف مكوناتها تطلق المواقف الشجاعة في سبيل التغيير، وما يعنيه ذلك من تمرد على اليأس وعدم الرضوخ الى الاستسلام. ومن أعظم الظواهر أن الشعب اللبناني بمختلف مكوناته تعلّم عميقاً من دروس الماضي، وهو يرفض اليوم أن يلدغ مرة أخرى من جحر الاقتتال الداخلي، على الرغم من وجود الخلافات العمودية…
الرئيس نبيه بري أدرك في وقت مبكر جداً حقيقة وجود هذا النبض العميق، ليس فقط لدى الشعب اللبناني بمختلف مكوناته، وانما أيضاً في أعماق الغالبية من القيادات اللبنانية الراغبة في النأي بلبنان عن حرائق المنطقة، بصرف النظر عما في سجل بعض تلك القيادات من ذنوب! والوصفة السحرية للرئيس بري التي صنعت عجيبة عدم الانفجار الداخلي، هي الحوار المستمر، ولو كان مثمراً في حدوده الدنيا. وهذا الحوار هو الذي أحدث تطوراً في الخطاب السياسي، فأصبح المتطرف أقل تطرفاً، وأصبح المعتدل أكثر اعتدالاً… وعندما يلتفت اللبنانيون الى هذه الايجابيات سيكون بامكانهم الانتقال من جلد الذات الى ايجاد الحلول!