لا شكّ في أنّ يومَ 12 شباط 2016 دخل التاريخ الحديث بكلّ ما للكلمة من معنى، وفتح بارقة أمل في إلتقاء الكنيستين الأرثوذكسيّة البيزنطيّة والكاثوليكيّة بعد نحو 938 عاماً على الإنفصال، شهد خلالها العالم المسيحي أقصى أنواع التباعد الديني والسياسي والعقائدي.
شهد عام 1054 التباعد الكبير، وأمس حصل اللقاءُ التاريخي بين قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس وبطريرك موسكو وعموم روسيا كيريل، طاوياً صفحة مؤلمة من النزاع والخلاف.
أحداث كثيرة وحروب هزّت العالم المسيحي طوال تلك المرحلة، لعلّ أبرزها الحروب الصليبيّة التي نالت القسطنطينيّة عاصمة البيزنطيين نصيبها منها، من ثمّ عاشت أوروبا عصرَ الظلام، ريثما سقطت القسطنطينية عام 1453 على يد محمّد الفاتح وخسر المسيحيون مدينة مهمّة، لتعيش بعدها أوروبا حروباً مدمّرة وأبرزها الحربان العالميتان الأولى والثانية وتبتعد من المسيحية مع إقرار العلمنة الشاملة وإبعاد سلطة البابوات.
أطلق البابا فرنسيس منذ تولّيه السدّة البابوية ثورة داخل الكنيسة الكاثوليكية محاوِلاً تطبيق الإصلاح الديني والعودة الى جوهر الدين، وعمل على إرساء أفضل العلاقات بين الشعوب والأديان، وصالح الولايات المتحدة الأميركيّة وكوبا، لتكون هافانا القاعدة الأساس للمصالحة التاريخية.
مسيحيّو الشرق
في خضمّ كلّ هذه الأحداث، جمعت المصيبة مسيحيّي الشرق نتيجة الحروب والتهجير، بعدما إنهارت الأنظمة التي كانت تتبع منطق «فرّق تسد»، ومع تبيان فضاحة التراجع المسيحي المشرقي وإنحساره في لبنان، حضرت قضية تهجير المسيحية المشرقية بقوّة في لقاء هافانا، لإستلحاق ما يمكن فعله من أجل إنقاذ ما تبقّى من وجود مسيحي في أرض المسيح.
وحظيَ اللقاء بترحيب خاص في الكنائس الشرقيّة التي تحاول بما تملك من إمكانات، الصمود والبقاء. وفي هذا السياق، يُرحّب بطريرك أنطاكية والإسكندريّة وأورشليم وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام، بـ«الحدث التاريخي»، معتبراً أنّ «عقده في هافانا مرتبط بقضايا كَنَسية، فهو لم يُعقد في أرض الشرق لأنّ هناك أعرافاً متعلقة بأنطاكيا لا يمكن تخطّيها، ويمكننا أن نعقد لقاءً لجميع بطاركة الشرق في القدس مثلاً لأنها أرض المسيح».
ويكشف لحام لـ«الجمهوريّة» عن فكرة قيد التداول تتمثل في عقد «لقاء لبطاركة الشرق الكاثوليك والأرثوذكس في روما تأتي إستكمالاً للقاءات البطاركة في بكركي ودمشق، من أجل توحيد وجهة النظر المسيحية من القضايا المطروحة».
ويلفت إلى أنّ «لقاءَ هافانا هو عبارة عن جمع المرجعية الأولى للكاثوليك في العالم مع أكبر بطريركية أرثوذكسية، ما يُسهم في ردم الهوّة التاريخية»، متمنّياً أن «يخرج الإجتماع بنتائج مثمرة من خلال توحيد عيد الفصح، إضافة الى حلّ مسألة الكاثوليك اللاتين في روسيا».
وبالنسبة الى الوجود المسيحي في الشرق، يشير لحّام الى أنّ «طرح أزمة تهجير المسيحيين ضرورية، والمعادلة واضحة وهي «أعطيني سلاماً أعطيك حضوراً مسيحياً مهماً»، وبالنسبة إليّ فإنّ الحروب التي اندلعت منذ أكثر من 70 عاماً ساهمت في تهجير المسيحيين وليس «داعش» أو الإسلام، لكنّ اللقاء بحدّ ذاته يعطي دفعاً للمسيحية الشرق أوسطية».
تاريخ النزاع
يسمَع المسيحيون الكثير عن الإختلاف بين الكنائس، ويتعجّبون من التباين الحاصل في مسائل عدّة وأبرزها عيد الفصح من دون أن يعرفوا السبب، ولعلّ بعضهم ينقاد وراء الكلام المذهبي من دون أن يدري أساسَ المشكلة وعمقها.
من هنا، يشرح راعي أبرشية جبل لبنان وطرابلس للسريان الأرثوذكس المطران جورج صليبا تاريخ الإنفصال وأسبابه، ويقول لـ«الجمهوريّة»: «لقاء قداسة البابا الكاثوليكي مع قداسة بطريرك روسيا الأرثوذكسي من المحطات المعتبرة في الكنيسة لأنّه بين العائلة التابعة لمجمع خلقيدون الذي انعقد عام 451 برئاسة البابا لاون الروماني والقيصر الروماني مرقيانوس، بحيث يجمعهما إيمانٌ مشترك». ويلفت الى أنّ «الكنائس الأرثوذكسية في العالم تُقسم الى قسمين، الأوّل الكنائس الشرقية التي تضمّ: السريانية، القبطية، الأرمنية، الحبشية، الهندية.
فيما يضمّ القسم الثاني الكنائس الأرثوذكسية البيزنطية أيْ كنيسة روسيا التي قبلت بمجمع خلقيدون بينما الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقية رفضته لأنه سبَّب شقاق المسيحيين».
ويُضيف صليبا: «إستمرّت الوحدة بين الكنيسة الأرثوذكسية البيزنطية والكاثوليكية حتى عام 1054 حيث انشقّتا وترسّخت الأحقاد بين أتباع العائلتين وأصبح هناك عداء، وهذا العداء إستفحل واستمرّ حتى النصف الثاني من القرن العشرين، الى أن التقت الكنائس وتحاورت وعُقد المجمع العالمي للكنائس عام 1948، وتبعه المجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني بقيادة البابا القديس يوحنا الثالث والعشرين وخلفه البابا بولس السادس الذي التقى البطريرك الأرثوذكسي المسكوني القسطنطيني (اسطنبول) في القدس عام 1964 وفتحت صفحة جديدة في العلاقة بين الكنيستين، لتحصل بينهما زيارات متبادلة ولقاءات عدة، أما كنيسة موسكو فلم تلتقِ مع روما رسمياً».
ويعتبر صليبا أنّ «يوم 12 شباط ولقاء البابا وبطريرك روسيا هو خطوة رائدة ومحبّبة ومنتظرة ومتقدّمة، وتصبّ في مصلحة مسيحيّي الشرق الذين يتعرّضون لإبادة وتهجير وتنكيل ممنهج، وكنتُ أتمنى التواضع من البابا والبطريرك وأن يلتقيا في روسيا أو الفاتيكان لكنهما لم يفعلا، وفي كلّ الأحوال نتمنّى لهما التوفيق».
الشرق ينتظر
يحتاج لقاءُ هافانا الى متابعة دقيقة لمعرفة تأثيره في المدى المنظور على أوضاع مسيحيّي العالم عموماً، والشرق خصوصاً، نتيجة الترابط في الملفات العالمية والإقليميّة، وينتظر لبنان أن يأتي هذا اللقاء بثماره نظراً لما يشكّل بلد الأرز من أهمية لدى الكرسي الرسولي، وبعد إيفاد بطريرك موسكو الأرشمندريت أرسين سوكولوف الى بكركي لوضعها في أجواء اللقاء عشية انعقاده.
«لا يهمّ مكان انعقاد الإجتماع سواءٌ كان في الشرق أو أميركا، بل النتيجة هي الأهم»، بهذه العبارة يُعلّق راعي أبرشية جبيل المارونية المطران ميشال عون على هذا الحدث، ويقول لـ»الجمهوريّة» إنها «بادرة خير خصوصاً أنه يطرح قضية تهجير المسيحيين من منطقتنا، نظراً لأبعادها في الوجدان المسيحي لأنّ الشرق هو مهد المسيحية».
ويوضح عون أنّ «هذا اللقاء هو الأوّل من نوعه بين الكنيسة الأرثوذكسية البيزنطيّة والكاثوليكيّة، إذ كان بطريرك القسطنطينية وبابا روما يتناقلان المعايدات فقط، لكنّ بطريركية القسطنطينية تتمتع بسلطة معنوية على عكس بطريركية موسكو وبما أنّ بطريركيات الأرثوذكس مستقلة عن بعضها نوعاً ما، فإنّ بطريركية موسكو وروسيا هي الأكبر ولها نفوذ وتأثير في العالم».
ويدعو عون الى «الفصل بين بطريركية موسكو والتدخل العسكري الروسي في سوريا على رغم الإرتباط الوثيق بين البطريركية والنظام الروسي»، مفضّلاً «الانتظار لنعرف تأثير اللقاء في مسيحيّي لبنان والشرق».
المهجّرون
بدورهم، يأمل الكلدان والأشوريون والمهجرون المسيحيون خيراً من كلّ حدث يمكنه أن يعيدهم الى أرضهم، ويرى نائب رئيس الطائفة الآشورية في لبنان المونسنيور تيرون كوليانا عبر «الجمهوريّة» أنّ لقاء هافانا يشكل خطوة «في الاتجاه الصحيح ويجب أن يشكل دعماً لصمودنا في أرضنا»، متمنّياً أن «تحلّ أزمة المهجرين ونعود الى أرضنا».
ويأمل أن «نصل الى توحيد عيد الفصح»، لافتاً الى أنّ «الآشوريين هم أرثوذكس لكنهم يعيّدون الفصح مع الكاثوليك»، معتبراً أنّ «الحسابات الأفضل تكون بتحديد العيد بين أوّل أسبوع من نيسان و14 منه».
مهما قيل فإنّ لقاء هافانا يؤسّس لمرحلة جدّية من التعاون، وأمامه درب طويل من العمل وإستحقاقات تواجهها الكنائس في الشرق، وحتى أوروبا التي خرجت عن الدين، في وقت يجتاح التطرّف العالم ويضرب في كلّ مكان ولا يفرّق بين القارات. وفي وقت يعزو بعض المؤرخين سبب خسارة أهمّ مدينة تاريخية للمسيحيين أيْ القسطنطينية الى النزاع بين روما والبيزنطيين، يبقى السؤال: هل ستُثبّت المصالحة المسيحيين في الشرق والغرب معاً؟