أسوأ من العام 2015؟! يصعب أن يمر على لبنان مثل سوئه وسيئاته وتجاوزاته وتسليمه لمقاليد البلاد كافة للمجهول، ولتعطيل المؤسسات ولإتخاذ القيِّمين الفعليين على أمورها قراراً بقطع رأس الرئاسة والإحتفاظ به في ثلاجة التطورات الدولية والإقليمية، ولإستعماله كرة ملقى بها في ملعب الأحداث، تتقاذفه ركلات الأقدام وتوجهات وتوجيهات القريب والبعيد، بانتظار أن تظهر حقيقة الأوضاع ونتائج المساعي التسووية التي تطبخ في هذه الأيام، تحت الطاولات، وخلف الأسوار، وفي خبايا ودهاليز المخابرات الإقليمية والدولية.
أسوأ من عام 2015؟! يصعب على لبنان، الذي عُطّلت كل مؤسساته وأُقفلت على حكومته كل منافذ العمل وأُلغيت كل وسائل الحكم والتحكم، وتركت أوساخه ونفاياته ملقاة في ساحاته وشوارعه على مدى بات يناهز العام، هو معظم عمر العام 2015 السيئ الذكر، وها نحن وقد أقبل العام 2016، نحاول أن نتخلص بأية وسيلة من تكدّس القاذورات على أبواب منازلنا ومتاجرنا ومؤسساتنا الخاصة والعامة، وحتى الآن يرجح بأننا لم نصل إلى نتيجة حاسمة، وهناك احتمالات وتكهنات بأنّ عملية تصدير الزبالة إلى الخارج، يحول دونه ألف مانع ومانع، ومعظم هذه الموانع لا يشرّف الأسماء التي ارتبطت سمعتها بكل مرتكبي شوائب هذا البلد والتي ما لبثتْ تُداخِلُها من الأبواب الخلفية التي لا يحمل مفاتيحها إلاّ أهل النفوذ والتحكّم والخبرة في اقتناص الظروف، وابتلاع الأموال المنهوبة.
في خضم العام 2015 وبين طيّاته وثناياه المرعبة، يقبع رجل ظلمته الأوضاع والأحداث وتحكُّمُ المتحكمين وتنافُسُ المسترئسين، ألا وهو الرئيس تمام سلام، وهو رجل العفة والطهارة المالية، والحكمة والمرونة في تسيير شؤون البلاد والعباد، فضلاً عن كونه رجل الوطنية الصادقة والأصالة والعراقة في تواريخه الوطنية والعائلية، وفي ممارساته التي لو لم يتوفر لرئاسة الحكومة واحد من أمثاله في هذه الحقبة الزمنية القاسية، لكان الوضع أصعب وأخطر، خاصة وأنها الحقبة التي تشظّى فيها هذا الوطن المنكوب، نتيجة للشروخ العمودية التي طاولت الوطن، فكانت شظاياه جملة من الكتل السكانية، الطائفية والمذهبية والمناطقية، بل تشظّى من خلالها أبناء الطوائف الواحدة إلى تكتلات وتجمعات تتصارع في ما بينها، وبعضها نسي أن لهذا البلد، تاريخاً ديمقراطياً وتميزاً في إطار الحرّيات العامة وحقوق الإنسان على الوطن، وحقوق الوطن على الأنسان، حتى لكاد لبنان، أن ينقلب تماماً من وضعيته كلؤلؤة البلدان المتطورة في هذه المنطقة من العالم، إلى دولة يسعى بعض أهلها إلى الهرب منها براً وبحراً وجواً، وبعضهم ابتلعتهم مياه البحار وهم في سعيهم إلى لقمة عيش أو إلى فرصة عمل أو إلى ساحة أمل.
هذا الرجل الذي اختير رئيساً للوزراء في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ بلاده للأسباب المذكورة أعلاه، ولقدرته على التعامل مع الفئات اللبنانية كافة، بما تيسر لديه من علاقات شبه متساوية الأبعاد بين الجميع، وبما يتمتع به من صبر وطول أناة على دلع المتدلعين ومحاربة المحاربين من أبناء السياسة والتحزّب في هذا البلد، وعلى تلقّي طعناتهم ولكماتهم وضرباتهم التي غالباً ما تتخفّى وراءها محاولاتٌ لطعن الوطن كلّه، خاصة ما تعلّق منها بالأماكن والمواقع السياسية والوطنية المؤذية.
وهكذا، ما إن بدأ التخطيط لتغطيس لبنان بالكامل في أطر الفراغات ودواعي الخلل الشديد والشلل الأشد، وما إن تبين أن هناك قرارات في هذا الإتجاه، بدأت بتوسيع أطر الفراغ الكامل الشامل في رئاسة الجمهورية، من خلال تحويل المجلس النيابي إلى رسوم نيابية متحرّكة، ولا تكون حركتها الهزيلة والهزلية إلاّ بأمر الآمرين والمتآمرين، ما إن تحقق ذلك حتى تحولت حكومة تصريف الأعمال إلى حكومة شاؤوا لها من الأساليب والممارسات أن تكون حكومة تصريف الوطن.
وهكذا حصل ما لم يحصل في أي عالم وأي بلد وأية دولة ديمقراطية ومتطورة نسبياً في أدائها السياسي العام: تم الفرض وبالإكراه السياسي والإكراه المعنوي، وبما يخالف المنطق وحقيقة مضامين الدستور والقوانين مرعية الاجراء، أن تكون قرارات مجلس الوزراء تؤخذ بالإجماع، وهذه بدعة لم ينص عليها الدستور، وترفضها كل المقاييس المنطقية والعملية)، وأن يكون لكُلّ وزير حقه بالإعتراض والممانعة وصولاً في ذلك، إلى ابتداع حق الفيتو الذي يُمَكّن أي وزير منفرداً وبكل ما منّ عليه الله من قدرة على اختلاقٍ وابتداعٍ للمشاكل ووضع العراقيل، من إبطال الموافقة على أي قرار، وهكذا إنشلّت البلاد بالكامل، وبات ضرورياً أن يتم حصول مداخلات وتدخلات محلية وإقليمية وربما دولية لتمكين مجلس الوزراء من اتخاذ أي من قراراته بما فيها تلك المتعلقة بإزالة النفايات، فكيف بنا بقرارت تعلو في قدرها وقيمتها عن هذا المستوى من الإنهيارات الحضارية المتمادية، التي يتشارك في مسؤوليتهم عنها، دون أن يكون لهم حق التنصل منها والحاق المسؤولية بالحكومة المغلولة، وبالتحديد برئيسها المضحّي والصابر.
لو لم تكن هذه الحكومة، حكومة تصريف أعمال، ولو لم يكن موقع رئيس الحكومة هو الأخطر في حساسيات أوضاعه وصلاحياته بحيث أصبح حبيس الحكم وحبيس الحكومة، لا يحق له أن يتحرك باتجاه قلب الطاولة وتفجير المعيقات والعرقلات والمنغّصات، ومحاولات قلب الأوضاع السياسية العامة من خلال إلحاق الشلل التام بها حكماً وأمناً واقتصاداً وحياة معيشية.
وكم من المرات إمتنع الرئيس المحبوس والموضوع قيد الإقامة الجبرية في السراي الحكومي، عن تحقيق ذلك بحسّ وطني عميق، حرصاً منهُ على صون ما أمكن من مصالح البلاد ومنعها من التدهور الكامل والخراب الرهيب، وكم من مرة بذلت معه جهود داخلية وخارجية للإبقاء على بعض الأوكسجين الذي يُبقي الحياة قائمة ومستمرة في هذا البلد المنكوب. ومع كل ذلك، ومع كل تفهمنا لاستمرار تمام سلام في الحكم والحكومة، نتساءل، أي صبر وأية حكمة وأية وطنية ما زالت تمسك هذا الرئيس مغلولاً إلى كرسي حكم قائم على تحكّم سلطات لا علاقة لها بالدستور ومؤسساته وقوانينه وقواعده، دون أن نغفل أن البعض يأخذ على الرئيس سلام، إمتناعه عن بتّ الأمور بقرار حاسم واقتحام للمواقع والحواجز والمطبات، بدلاً من مراعاة الأوضاع والمواقع والمواقف إلى هذا الحد من الليونة. ولكن لكلٍّ أسلوبه ونهجه في الحكم وفي الإمساك بمقاليد الأمور، ولعل الرجل وقد وُضِعَ عن سابق تصور وتصميم أمام هذا القدر من الإحتقانات والمواجهات والإحتمالات التفجيرية. هو خير من يقدّر الأبعاد الكامنة وراء كلِّ قرار يتخذه ومدى تأثيرها على مجمل المواقع والمواقف والأحداث، وعلى هذا الأساس، هو يُصرّف، ويَتَصَرّف.
دخلنا عاماً جديداً، وطريق الجلجلة ما زال هو هو، ومازال الرئيس سلام حاملاً على كتفيه أعباء ظالمة لا يستأهل حاملُها هذا القدر من المعاناة ومن حمل أثقالها وأوزارها، فهل يبقى في العام الجديد، حبيس الحكم والحكومة ذات الأربعة وعشرين رأساً وأربعة وعشرين رئيساً للجمهورية؟ سؤال يتوقف عليه مصير هذه الحكومة ومصير هذا الوطن.