بين كل عام وعام جردة حساب ومراجعة حوادث وتقييم مواقف، لعلنا نأخذ الدروس من الأخطاء ونعمل على عدم تكرارها لمواجهة الأخطار وتلمّس قبس من نور أو نمسك بشعلة أمل للخروج من المحن التي يعيشها العرب.
والمؤسف أن عالمنا العربي لا يكاد يخرج من أزمة حتى يقع في أزمات أكبر، ولا ينجو من حرب إلا ويغرق في حروب أشد خطورة، ولا يقطع مرحلة إلا ويعيش مراحل أكثر نزفاً ودماراً. فعام ٢٠١٤ كان مثالاً حيّاً على المآسي والإمعان في سلوك طريق الفناء، مثله مثل الأعوام التي سبقته وحوّلت الربيع العربي صيفاً حارقاً وشتاءً عاصفاً، وقضت على منجزات عقود وقرون من عمران وحضارة وقيم ووحدة وانتماء عربي ومشاعر وطنية. فقد أكلت الحروب الأخضر واليابس ودمرت البشر قبل الحجر.
والوصف الأمثل للعام المنصرم يحمل عنوان: «عام الأخطار» لأنه شهد تهديدات شاملة وهدم الماضي ودمر الحاضر وهدد المستقبل وقضى على حياة الملايين من المواطنين الذين وقعوا بين فكي كمّاشة وحوصروا في أتون متفجر وأُحرقوا بنيران التطرّف والعنف. وهناك خشية من أن تترجم الأخطار إلى واقع نهائي إن لم يعد العقل الى نصابه وتسود الحكمة وتنتصر القناعة بوجوب بذل الجهود الجبارة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يقع «الفأس في الرأس» ولا يبقى سوى الأطلال وقلة قليلة ممن نجوا من المحارق تبكي على مُلْك لم يحافظ عليه الرجال.
والأمل كبير بأن تنجح هذه الجهود حتى نتفاءل بعام أكثر أمناً واستقراراً نشهد فيه مسيرة طويلة للحلول ووقف نزيف الدم وجنون القتل وترميم اللحمة وإعادة البناء… حتى يتحقق الحلم ونضع عنواناً للعام الجديد هو: «عام القرار»، قرار العودة إلى العقل واقتراح الحلول لتسوية الخلافات والاعتراف بالآخر والسير نحو هدف الديموقراطية والحريّة والعدالة والشراكة الضرورية لأي حل مستقبلي.
وهناك مؤشرات كثيرة على اقتراب ساعة القرار، لأن استمرار حالة الجنون عاماً آخر سيؤدي إلى دمار شامل لا رجعة بعده ولا قرار. فالشعوب لم تعد تحتمل مزيداً من القتل والتشرد وإبادة الأجيال، والدول لم تعد تملك إمكانات تضاف إلى أعباء الأعوام السابقة وما تكبدته من أموال الشعوب التي تقدر بمئات البلايين من الدولارات، ومن مئات الألوف من الضحايا الأبرياء الذين لا تقدر خسارتهم بثمن.
والأهم من ذلك هو الخوف من انتشار التطرّف وتمدد الإرهاب وسيطرة تنظيماته على مساحات شاسعة وامتلاكها أحدث أنواع الأسلحة والصواريخ والأموال وتحكّمها برقاب من يقودهم حظهم السيئ إلى الوقوع تحت سلطتها والرضوخ لأوامر ما أنزل الله بها من سلطان.
البداية من سورية، الأكثر اشتعالاً على جبهات عدة، مع امتداداتها الخارجية العربية والإقليمية والدولية. فعام٢٠١٤ كان عام الأخطار الحقيقية التي لا حدود لها ولا نهايات سوى الدمار أو التقسيمات. والحرب طال أمدها وتعقدت تفاعلاتها ونتائجها الوخيمة على دول المنطقة بأسرها، إن لم نقل على دول العالم بسبب سيطرة «داعش» على شمال سورية والعراق
وتوافد آلاف الإرهابيين الأجانب من شتى بقاع الأرض لتتحوّل البلاد الى ساحة حرب دولية بعد حصول الإرهابيين على الدعم المالي والعسكري الكبير، وما نجم عنه من دخول «التحالف الدولي- العربي» عبر غارات لم تحقق حتى الآن سوى بعض التقدم لأسباب خفية وسط دعوات إلى التدخل البري.
هذه الأخطار تُضاف إليها عوامل الدمار والنزوح ومحنة ملايين اللاجئين والأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة وسط مخاوف من الآتي الأعظم إذا استمرت الحرب لسنوات مقبلة، كما يردد البعض. وهنا تكمن أهمية مواجهة هذه الأخطار في العام الجديد بمبادرات جدية تسمح بتحويله إلى عام القرار والعمل على وقف الحرب والبدء بحوار بناء يضع حداً لشلالات الدم. وهذا يتطلب تنازلات وتسامحاً وتغليب المصلحة الوطنية والإنسانية لتضميد الجراح وكفكفة دموع الأطفال الأبرياء.
فكل حرب تنتهي إلى سلام، وكل أزمة مصيرها الحل، فلماذا لا تُتخذ القرارات المصيرية من موقع المسؤولية والالتزام بالوحدة الوطنية ومنع مؤامرات التقسيم والتدمير؟
هناك الآن عدة مبادرات سلمها العام ٢٠١٤ إلى العام ٢٠١٥، أولها المبادرة الأممية التي يسوّقها مبعوث الأمين العام ستيفان دي ميستورا، وهي مرحلة بسيطة تبدأ بتجميد القتال في حلب للانطلاق نحو مفاوضات تشمل المناطق الأخرى، لكن الشكوك حول آلية التنفيذ كثيرة، خصوصاً أن هيمنة «داعش» و «جبهة النصرة» على جبهات مهمة ستعرقل أي حل، إلا إذا أثمرت الغارات في تحجيمها.
أما المبادرة الثانية، فجاءت من روسيا، وهي أكثر شمولاً، لأنها تتحدث عن حل شامل ومفاوضات بين النظام والمعارضة «المعتدلة»، وسط شكوك عن مصير الالتزام بمبادئ بيان «جنيف-١»، خصوصاً ما يتعلق بصلاحيات الهيئة الانتقالية، إضافة إلى انتظار القرار الأميركي في نهاية عهد الرئيس باراك أوباما بعد اللقاء الأخير بين وزيري الخارجية الأميركي والروسي.
أما العراق، فأوضاعه متشابكة مع الوضع السوري بعد سيطرة «داعش» على مناطق واسعة والسماح لطائرات التحالف بشن غارات على مواقع التنظيم. فقد عاش العراق عام الأخطار بكل أشكالها بعد انتفاضة المناطق السنية وإصرار رئيس الوزراء السابق نوري المالكي على الحل العسكري، على رغم تعطل مفاصل الدولة ليصبح خطر التقسيم ماثلاً للعيان بعدما أدى اجتياح «داعش» المناطق السنية -بدءاً بالموصل- إلى صبّ الزيت على النار. وكاد الانفجار أن يقع لولا التسوية الدولية والإقليمية والعربية التي قضت بتنحية المالكي وإعادة هيكلة الجيش والسعي إلى استعادة الطرف السنّي بتسليح العشائر والاستجابة لمطالبها ووقف التعديات على مناطقها والمشاركة في محاربة «داعش».
ويأتي عام ٢٠١٥ ليستقبل حالة لا سلام ولا حرب ولا قرار ولا استقرار، بانتظار استحقاق القرارات المصيرية، وفي مقدمها تحديد هوية العراق بعد استعادة الأراضي السليبة ومدى القبول بنظام اتحادي أو بحكم ذاتي، خصوصاً أن الأكراد استكملوا بناء دولتهم بعد حصولهم على أسلحة حديثة وتم الاتفاق على حصص النفط، ولم يبق سوى الإعلان الرسمي وفكّ عقدة الموقف التركي ومصير بعض الأراضي المتنازع عليها.
وفي اليمن أيضاً أخطار كثيرة شهدها عام ٢٠١٤ على مختلف الصعد، بدءاً من خلخلة النظام الهشّ ونقض اتفاق السلام، وصولاً إلى اجتياح جماعة الحوثيين العاصمة صنعاء والمدن الرئيسية الأخرى، واشتعال نار حروب مع «القاعدة» والقبائل، وفي الجنوب الذي يتحرك طلباً للاستقلال التام. وخلال أيام قليلة، لا بد من أن تتضح الأمور أكثر ويرسم مصير اليمن «غير السعيد» ليكون العام الجديد عام القرار والخيار بين الإنقاذ والدمار والتفتت.
أما مصر، فبدأت عام ٢٠١٤ في نزع صواعق تفجير الأخطار الكثيرة بعد سحب البساط من تحت جماعة «الإخوان المسلمين» وإسقاط نظامهم، لكنها ما زالت في بداية خطوات إعادة الهيبة إلى الدولة برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي ومحاربة الإرهاب في سيناء وغيرها، على رغم تعدد عمليات التفجير والقتل وذبح الجنود الأبرياء. الإنجاز المهم الذي تحقق تمثل في إعادة دور مصر العربي والدولي، وبالتالي إعادة بناء الأمن القومي العربي بإقامة علاقات مميزة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج (بما فيها قطر التي ينتظر أن تنفذ قريباً الاتفاق المتخذ في قمة الدوحة الخليجية).
إلا أن الطريق ما زال طويلاً لإزالة كل الأخطار، وأولها الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والتي تعد معالجتها من الاستحقاقات الكبرى في عام ٢٠١٥ للانتقال من مرحلة الحلحلة الى مرحلة الحلول.
وتبقى ليبيا الجريحة التي تعاني أخطاراً كثيرة، من بينها خطر التقسيم والحروب الأهلية والقبلية، إضافة الى سيطرة المتطرفين من «القاعدة» وأخواتها على مدن مهمة، وجاء الرد عليها من الجيش في عملية «الكرامة» بقيادة اللواء حفتر الذي حقق إنجازات مهمة. لكن هذه الأخطار ما زالت قائمة والعملية تتأرجح بين مد وجزر وكرّ وفرّ ليصبح الحسم مطلوباً في عام ٢٠١٥، وإلا فإن النهاية ستكون مأسوية لا تطاول ليبيا فحسب، بل تمتد الى دول الجوار.
وتونس بالذات تمثل بارقة الأمل الوحيدة في مسيرة «الربيع العربي»، إذ تجاوزت الأخطار في العام المنصرم، وهي الآن تدخل مرحلة اختبار فعلي بعد النجاح في إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية حددت أحجام القوى وأضاءت طريق النجاح في مواجهة الصعاب نتيجة لرضوخ جميع الأفرقاء، ولا سيما حركة «النهضة» الإسلامية، للنتائج، والقبول بتقاسم السلطة.
أما لبنان، فعانى كعادته عاماً بعد عام من موجات الأخطار واستطاع أن يجتاز «قطوعها» بما يشبه المعجزة. وها هو يعيش تحت نير أزمات خانقة تفاقمت نتيجة الفراغ وعدم إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، من دون تجاهل الأزمات الاقتصادية والمالية والجمود الإداري وشلّ عمل الحكومة برئاسة الرئيس تمام سلام، وتتويجها بأخطار أمنية وتفجيرات ومعارك لصد هجمات «داعش» و»النصرة». والأكيد أن «تمديد» الهروب من مواجهة الاستحقاقات سيؤدي الى أزمة خانقة وحوادث خطيرة قد تنسف الكيان كله. ولهذا لا بد من قرارات حاسمة في عام ٢٠١٥، وإلا فالخطر داهم.
تبقى الدول العربية الأخرى التي نجت من نيران الربيع واجتازت قطوعها بسلام وحكمة وقرارات استباقية، كما استطاع مجلس التعاون الخليجي وفي طليعته السعودية أن يتخذ مواقف متقدمة ضد الإرهاب وينفذ إجراءات إصلاحية ويزيل صاعق التفجير الأكبر، وهو الخلاف مع قطر وما سببه من انعكاسات.
لكن هذا لا يعني أن الأمور مستتبة، فهناك حزام عنف وأخطار قادمة على المنطقة كلها، إضافة إلى معضلة انهيار أسعار النفط ومدى تأثيرها على مشاريع التنمية وفرص العمل، ما يستدعي اتخاذ قرارات مهمة لتقليل الأخطار. إلا أن أكبر أزمة تواجه الجميع هي القضية الفلسطينية التي عادت إلى الواجهة بعد العدوان الصهيوني على غزة وجنوح الإسرائيليين نحو قمة التطرّف وتصعيد عمليات الاستيطان الاستعماري وعمليات الإرهاب الممنهج ضد الشعب الفلسطيني والتمهيد لإعلان إسرائيل «دولة يهودية»، ما يؤكد أن عام ٢٠١٥ لا بد أن يكون عاماً مفصلياً يتخذ فيه الفلسطينيون والعرب والعالم قرارات لمنع الانفجار الكبير مع التهديد المتمادي لهوية القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك، إضافة إلى حسم أمر المصالحة الفلسطينية وقرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، كما يحسم الإسرائيليون مواقفهم في الانتخابات العامة وشكل الحكومة الجديدة.
ولهذا كله، علينا أن نحلم بوداع عام الأخطار والدم والدمار ونستقبل عاماً نأمل بأن يكون عام الأمل والقرار والاستقرار لنفرح مجدداً ونتجرأ لنقول لكم: كل عام وأنتم بخير وأمن وأمان.