“التفتيش المركزي” يعمل بـ”ثلث” هيكليته البشرية
تتفاقم التحديات التي تواجه المؤسسات العامة والإدارات الرسمية يوماً بعد آخر جرّاء الإنهيار المتمادي للعملة الوطنية، وتعمّد إطالة أمد الشغور في المؤسسات الدستورية ما يتسبب في إفراغ ما تبقى من مراكز إداريّة في الدولة، لتنشط في الموازاة، أعمال الكسب غير المشروع في بعض تلك الإدارات التي وضعت المواطنين أمام واقع لا بدّ منه من أجل تسيير أعمالهم، عبر المشاركة في تعميم نهج الفساد ودفع الرشاوى بـ»الدولار» والتي تفوق بأضعاف الرسوم التي تتقاضاها الدولة… ما دفع البعض إلى التحذير من مخاطر تحلل الإدارة على مستقبل الدولة.
وإن كانت الإدارة الجيّدة ركناً أساسياً في قيام الدولة، فبانتفائها، أي الإدارة، تفقد الدولة دورها، لتشرّع الأبواب على أسئلة مصيرية حول مستقبلها وديمومتها، والتي تترافق اليوم مع حديث متقدّم عن وجوب إعادة النظر في التنظيم الإداري في لبنان. وهذا ما يدفع إلى البحث في واقع الإدارة راهناً ودور السلطات الرقابية في مراقبة الإدارات الرسمية والمؤسسات العامة والبلديات، وهو دور أنيط بالتفتيش المركزي الذي يقع على عاتقه أيضاً السعي إلى تحسين أساليب العمل الإداري، وإبداء المشورة للسلطات الإدارية عفواً أو بناء لطلبها، وتنسيق الأعمال المشتركة بين عدّة إدارات عامة، إلى جانب القيام بالدراسات والتحقيقات والأعمال التي تكلفه بها السلطات.
وفي متابعة لهذا الدور المنوط بالتفتيش المركزي، يتبيّن أنّ واقع الموظفين في جميع الإدارات العامة متشابه، لتضاف إلى ذلك المشاكل اللوجستيّة التي تواجه عمل المفتّشين الذين يستخدمون وسائل النقل خاصتهم في تأدية وظيفتهم وزيارة الإدارات العامة. ومع الإرتفاع المستمر في أسعار المحروقات، تتبيّن إستحالة قيامهم بذلك تحديداً مع العلم أن التفتيش المركزي هو الجهاز الرقابي الوحيد الميداني الذي يعمد إلى إرسال المفتشين إلى الوزارات ومراقبة أداء الوظيفة العامة، أكان لجهة الموظفين أو مطابقة عمل الإدارة ككل مع القوانين، وهذا لا يمكن أن يتم من خلال زيارة ميدانية دوريّة، إنما يتطلب برنامج عمل سنوياً يتزامن وزيارات يومية، بشكل حرفي وممنهج واستراتيجي… وهذا ما لا يمكن القيام به راهناً وسط عودة الموظفين إلى الإضراب، أو الحضور بشكل متقطع إلى مراكز عملهم. في حين لا يتعدى الجهاز البشري في التفتيش المركزي الـ30 في المئة من الهيكليّة الأساسيّة التي رسمت له منذ 1959.
ومع تردّي الخدمات العامة لحظت التقارير التي رفعها المفتشون الميدانيون في الدوائر الرسميّة أكان في الماليّة أو المساحة أو التنظيم المدني وغيرها من الإدارات، وجود العديد من العوائق اللوجستيّة التي تتعدى غياب الموظفين وتصل إلى إنقطاع الكهرباء وعدم توفر القرطاسيّة وغيرها من التحديات، ما قد يعيق تحصيل الرسوم والضرائب وتقليص إيرادات الخزينة التي تساعد على تأمين إستمرارية العمل الإداري من خلال دفع رواتب الموظفين وتشغيل الإدارة بانتظام. وهذا من شأنه أن ينعكس سلباً على المواطنين وأعمالهم جرّاء ارتباط القطاع الخاص بالعام والخدمات التي يوفرها.
وإذ يقتصر دور التفتيش المركزي على مراقبة عمل الإدارة ورفع التوصيات والعقوبات المسلكيّة، فإنّ التحقيق الذي أجراه في موضوع النافعة والدوائر العقارية وما نجم عنه من قرارات، لم يحدّ من الفساد المستشري الذي دفع بالنيابة العامة إلى الغوص في دهاليز الملفات المرتبطة بهذه الدوائر، قبل أن يضعها البعض في إطار تصفية الحسابات السياسيّة، وغبّ الطلب تحديداً بعدما عمد التفتيش المركزي إلى التحقيق في التوظيف المخالف للقانون بعد العام 2017، ورفع الملف الذي يتضمن ما يقارب الـ 5000 موظف إلى النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة ولكن لم يصدر أي قرار حتى تاريخه، ما دفع المعنيين في هذا الملف إلى التشديد على أنّ التوافق السياسي يطيح بشتّى أنواع الرقابة والمحاسبة في الدولة.
إيصال الخدمة العامة التي تعلو على جميع المطالب الأخرى والمحقة لموظفي القطاع العام، دفع إدارة التفتيش إلى وضع مخطط لتعزيز بناء القدرات من خلال التعاون مع الإتحاد الأوروبي والبنك الدولي، حيث تم إنشاء مركز لتلقي الشكاوى وانشاء نظام للتدقيق وفق المعايير الدوليّة، بالتوازي مع العمل على تهيئة الأرضيّة لتطبيق التحول الرقمي في الإدارة العامة، والذي يفترض أن يمر عبر مكننة الرقابة وبنائها على قواعد ورؤية ثابتة، وهذا ما دفع المعنيين في التفتيش المركزي إلى التأكيد على الإستمرار في تطوير أساليب العمل رغم جميع التحديات السياسيّة والماليّة.