الإنهيار “يفتّت” الإدارات الرسميّة: مَن يراقب مَن؟
تتوالى التحدّيات التي تصيب مؤسسات الدولة الرسميّة تباعاً، لتصل إلى ديوان المحاسبة المنوط به السهر على إدارة الأموال العموميّة، ومراقبة الأعمال المتعلّقة بتنفيذ الموازنة، والتدقيق بحسابات الدولة والبلديّات والمؤسسات العامة، والفصل في صحّتها وقانونيّتها، وسط شغور يزيد عن 50 في المئة من جهازه البشري. واقعٌ مزرٍ تمّر به مؤسسات الدولة. إدارة شبه منهارة، وبحكم الواقع، أجهزة الرقابة أيضاً! يؤدي إقتصار العمل على يومٍ أو اثنين في الأسبوع إلى اختلال انتظام عمل الإدارة والحؤول دون القيام بالمهام الملقاة على عاتقها وتلبية خدمات العموم.
يعدّ تقاذف المسؤوليات وتحميل الإنهيار المالي المتفاقم تبعات الشلل في الإدارة العامة، القاسم المشترك بين الإدارات، ليغيب في الوقت ذاته، تحميل الساسة والحكومات المتعاقبة مسؤولية ما وصل إليه لبنان، جرّاء تعطيل أجهزة الدولة الإدارية والرقابية كما القضائية المولجة ضبط تبديد المال العام ومحاسبة المرتكبين. قبل العام 2019، تعذّر على ديوان المحاسبة التدقيق في حسابات الدولة جرّاء ورودها بطريقة غير منتظمة ومغايرة للأصول من وزارة المالية. لتضاف إلى ذلك، الأوضاع السياسيّة التي شهدها لبنان منذ 2005 والتي حالت دون إقرار الموازنات العامة حتى العام 2017، ليتمّ القفز لاحقاً، عن وجوب قطع الحساب عن السنوات التي خلت واستئناف العمل على إقرار الموازنة منذ العام 2017 من دون قطع حساب.
ويشير المعنيون في ديوان المحاسبة، المولجون دراسة الموازنة وإصدار قطع الحساب وحساب المهمة، إلى قيام وزارة المالية بإعادة دراسة كافة الحسابات المالية العائدة إلى الأعوام 1997 حتى 2017، وجدولتها وتنظيمها وفق الأصول وإيداعها الديوان في العام 2019. في حين تعذّر على المالية تنظيم الحسابات العائدة إلى الأعوام 1993 حتى 1996. وهذا ما يدفع الديوان إلى إصدار قرارات موقتة راهناً عن حسابات المهمة المنكب على دراستها من دون إصدارها بقرار نهائي.
وإلى حين تسوية الحسابات العائدة إلى تلك الأعوام، عمد الديوان إلى إصدار قطع حساب للأعوام 2017، 2018 و2019، في حين تتخلّف وزارة المالية منذ ما يزيد على السنتين عن إرسال الحسابات العائدة للعامين 2020 و2021 إلى الديوان من أجل التدقيق بها ورفع تقريره إلى المعنيين من أجل إصدار قطع الحساب. وهذا ما يعدّ مخالفة دستورية، جرّاء إقرار المجلس النيابي موازنة العام اللاحق قبل التصديق على قطع حساب العام السابق.
إنّ تقاعس الوزارة عن إرسال حسابات العامين 2020 و2021، دفع الديوان إلى الإنكباب على دراسة الحسابات العائدة إلى الأعوام العشرين التي أُودعت لديه، والإنتهاء من الحسابات العائدة للسنوات 1997 حتى 2000، بحيث يتم إصدار قرارات موقتة بحساب المهمة عوض إصدارها بقرار قضائي، تحسّباً لأي خطأ مرتبط بالحسابات غير المتوفرة والتي انطلق منها. واللافت، أنه منذ بدء الأزمة المستجدة في العام 2019، لم يصل الديوان أي حسابات جديدة من المالية من أجل دراستها، في حين انخفض عدد التلزيمات التي يقوم الديوان بإعطاء موافقته المسبقة حولها أو الإحتجاب عن ذلك، قبل أن يعمد الوزير لاحقاً إلى التصديق عليها وإعطاء أمر المباشرة بالتنفيذ، إلى حدّه الأدنى والتي لا تتعدّى 10 في المئة من التلزيمات التي كانت ترده في السابق. قبل أن يجد الديوان نفسه أمام صعوبة التدقيق في الحسابات العائدة إلى البلديات الـ55 الخاضعة لرقابته المسبقة، كما المؤسسات العامة جرّاء التحدّيات اللوجستية والبشريّة الجمّة التي تعيق انتظام عمله. وإن كان الإنقطاع المستمرّ للكهرباء يسود كافة الأراضي اللبنانية، فإن الوسائل البديلة لتأمين الكهرباء في مقرّ الديوان وسط بيروت غير متوفرة. المولّدات تحتاج الى صيانة كما أنه يتعذر تأمين إعتمادات تشغيلها، في حال إصلاحها. الظلمة تسود المكاتب نهاراً، كما الأروقة التي هجرتها شركات التنظيفات منذ ما يقارب السنتين.
واقع الديوان «حدّث ولا حرج» وفق المعنيين. واجبهم التدقيق في حسابات الدولة على ضوء الهاتف!!! يقول المعنيون إن نشاط رئيس الديوان القاضي محمد بدران وحركته المستمرّة يسمحان بتأمين أبسط مستلزمات الإستمرار في العمل ولو بالحدّ الأدنى… في حين يشكل التحدّي الأبرز غياب أبسط المقوّمات اللوجستيّة: إقتصار التدقيق في حسابات الدولة على عددٍ قليل من المدقّقين الذين يعاونون القضاة في غرفهم. مدقّق واحد لكل غرفةٍ من الغرف الثماني في الديوان، باستثناء الغرفة التي يقع عليها التدقيق في حسابات الدولة، والتي خصّص لها 8 مدققين آخرين يقومون بعملهم تحت إشراف رئيسة ومستشارين. ليبرز في الموازاة، قيام الديوان في البتّ بالملفات المرتبطة بالتوظيف المخالف للقانون بعد العام 2017 ما خلا الملفات المرتبطة بوزارة التربية التي حجبتها عن الديوان. أمّا عن واقع العمل راهناً، ورغم اندفاعة رئيس الديوان، فإنّ الإضراب المستمر لموظفي الإدارة العامة كما انعدام القيمة الشرائيّة للرواتب والإرتفاع المستمرّ لأسعار المحروقات وانعكاسه على قدرة الموظفين على الوصول إلى مكاتبهم… تفاقم التحدّيات التي تعيق انتظام العمل في الديوان الذي واظب على تسيير العمل في حدّه الأدنى خلال إضراب القضاة والموظفين، ليبرز في الموازاة، إرتفاع نسبة الشغور في غالبيّة المراكز التي لحظها قانون إنشاء الديوان.
فمن أصل 227 موظفاً في الملاك لحظهم قانون إنشاء الديوان، هناك 115 مركزاً شاغراً، ليبقى 112 موظفاً في الملاك يتولّون تسيير العمل في الديوان، يعاونهم 13 متعاقداً و6 أجراء و3 عاملين بالفاتورة، في حين سيحال على التقاعد موظفان ومتعاقدة في الأسابيع المقبلة.