IMLebanon

المواجهة الخفيّة

 

 

تجري خلف المواجهة الظاهرة في الاعلام بين الأطراف اللبنانية المتنازعة والمتناقضة، مواجهة خفيّة أشرس منها وأشدّ حدّةً، وتدلّ بوضوح إلى خطورة الانقسام الوطني بين محورين، «محور المُمانعة والتسلّط» و»محور المعارضة المتعدّدة»، وتشي إلى صعوبة التفاهم بين الطرفين والمنطقين والذهنيتين، وبطبيعة الأمور إلى النظرة للوطن.

 

وقد تكشّفت احدى فصول هذه المواجهة أخيراً، بالانقسام حول تفسير مفهوم «العطل الرسمية». ففي حين تمّ اقرار عطلة رسمية رمزية حول انهاء الاحتلال الاسرائيلي للبنان، منذ فترة التسلّط السوري على لبنان، والذي لا خلاف عليها، يرفض محور المُمانعة البحث في أي إقرار لعطلةٍ رمزية خاصة بجلاء آخر عسكري سوري عن لبنان، إنهاءً للسيطرة السورية على اللبنانيين. والاختلاف في التفسير بين المحورين يُمثّل حقيقة الصراع الخفي الذي تدور معاركه القاسية بين خطّين سياسيين ثابتين ومستمرّين، وتنعكس تأثيراته على المشادات اليومية حول المقاربات لمعظم الملفّات الحياتية والسياسية والامنية، وغيرها من شؤون الناس والدولة.

 

وعلى جانب هذا الانشقاق الأساسي، تعمل بعض الأطراف اللبنانية السياسية، من أرباب التسويات الظرفية، على التخفيف من حدّة وأهمّية هذا الخلاف، بهدف تجنّب مواجهة المشاكل العميقة، بتمرير الهُدن في زمنهم، إمعاناً في تنعّمهم بالسلطة، فيرمون الحلول إلى أزمانٍ لاحقة، أي توريثاً لأولادهم. وهذا هو المسار الذي كان غالباً في لبنان، منذ نشأته وحتى زمننا هذا، وفي الوقت الحالي، فإن أكثريّة هذه الأطراف التسووية، تخشى الدخول في الحلول الحقيقية، كونها تفتقد لحس القيادة أولاً، وللكفاءات وللقدرة على ابتداع الافكار والبرامج الوطنية ثانياً. ولذا فلا إمكانية لها لدفع الأمور إلى وضعية الحلول الجذرية والتاريخية. فتحاول استبدالها بالالتقاء على حفلة من المحاصصات وتوزيع النفوذ والإرضاءات والشراكة في الهدر والفساد، ما يؤدي إلى منع قيام الدولة والمؤسسات وتأخير نهوض شعب لبنان، للالتحاق بركاب التطور العالمي والعلمي.

 

الفرق كبير بين الوطن والدولة، فاللبنانيون اجتمعوا منذ نشأة لبنان «الدولة» على تركيبة تجمع مصالحهم في مؤسساتها، وبذلك تمسّكوا بانتماءاتهم الفكرية والثقافية المتنوعة والمتعارضة، فسقط مشروع إنشاء الوطن الجامع، علماً بأنّ المشكلة لا تكمن في الدولة أو الوطن، فهناك كثير من دول العالم متعدّدة الإثنيات والطوائف والفئات، وقد استطاعت هذه الدول، التي تُعدّ حالياً من الأنجح في العالم والأكثر تطوراً، بناء وطن بتركيبة تحمي كافة فئاته، وتُنهي خطر الالغاء بين بعضها البعض. أمّا اللبنانيون الذي كانوا السبّاقين في الاجتماع في دولة، بدستورٍ متميّز بمنطق الشراكة، لم يستطيعوا حتى الآن الإلتقاء على الإنتماء لوطن واحد، بعطله الوطنية الرمزية الواحدة، التي تحمي تاريخ نضالاتهم وقراءاتهم ومستقبلهم.

 

وطالما هناك فريق يستقوي بالايديولوجية المُسلّحة الخاصة به لفرض قراءة التاريخ ولفرض الاستنسابية في العطل الرسمية، ولمصادرة القرارات الوطنية، طالما لن يحظى أحد من اللبنانيين بالاستقرار. يقول الكاتب والمؤلّف والمفكّر نبيل خليفة في كتابه «بحث في مصير الدولة – الحاجز» الذي أصدره عام 1993 إنّ «الدول في العالم تندرج ضمن ثلاث حالات: الاستقلالية – التبعية – الحيادية، وكل واحدة من هذه الحالات نسبيّة وليست مطلقة». فالشق اللبناني المُمانع يريد لبنان تابعاً، لمشروع ايديولوجي توسّعي، أمّا الشق السيادي المعارض له فيريد وطناً حيادياً، فهل النسبيّة بين الطرفين قد توصل إلى استقلالية لبنانية تؤمّن الاستقرار للبنانيين بدل المواجهات؟

 

جنَت التسويات الظرفية السلطوية بالكثير على الشعب اللبناني، ودفع الشعب اللبناني من حياته وارزاقه واملاكه، ثمن رفض الأطراف السياسية المتعاقبة على السلطة الدخول في العلاجات الحقيقية للامراض الحقيقية، وثمن التأجيل في التعمّق في تعقيدات المسألة اللبنانية، وثمن التسويف والتردّد وعدم الكفاءة، بعدم الكشف عن المواجهة الخفية والانشقاق الوطني العميق، المتجذّر في الفكر والرؤية للوطن، والثقافة، وعملت هذه العقلية السطحية على تصعيب الفهم الشعبي للأزمة اللبنانية بتجهيل أسبابها الحقيقية، وبإبعاد الحلول الناجعة.

 

إنّها ليست مسألة عطلة رسمية أو اختلاف على تقييم بالتوقيت الغربي أو الشرقي، بل إنها مسألة «عطلة رسمية» برمزيتها، وبمعناها النضالي. ففي حين يعتبر بعض اللبنانيين أنّ خروج الجيش السوري من لبنان، نكسة لمشروعه التسلّطي على رقاب الشعب، يعتبره البعض الآخر من اللبنانيين، نتيجةً فعلية لنضالاته وعذاباته ولصموده البطولي. وفي حين يعتبر فريق المُمانعة أنّ الحدود بين لبنان وسوريا من صناعة غربية، يفتخر الفريق السيادي بوجود هذه الحدود وبضرورة ترسيمها والاعتراف بها والدفاع عنها.

 

وكما يختلف الفريقان حول تفسير العطل الرسمية وتحديدها، فإنّ انشقاقهما يمتد حول النظرة لدويلة «حزب الله»، فكما استمدّ محور المُمانعة قوته سابقاً من الوجود القوي للمخابرات والجيش السوري، فقد عانى الفريق السيادي من هذا الوجود، إذلالاً وقمعاً وتنكيلات وخطفاً وإخفاءً للمناضلين، وإبعاداً للقياديين، واليوم يستقوي الفريق المُمانع بالدويلة على باقي اللبنانيين ويُصادر قرارهم الرسمي، أمّا الفريق المُعارض، فيعتبر دويلة المُمانعة إضعافاً للبنان وعزلاً له، ويُصنّفها بدرجةٍ أكثر خطورة من الاحتلالات العسكرية، فالاحتلال العسكري دائماً إلى زوال، أمّا الاحتلال الفكري والذهني والثقافي، فلا ينتهي الا بمواجهته بفكرٍ وثقافةٍ أقوى وأثبت منه، وهذه هي المواجهة الحقيقية الخفيّة التي تجري فصولها كل يوم، وحول كل الملفّات والقضايا. «من يركع فكرياً ينسى كيف يقف ثانياً».