مع اقتراب الاحتفال السنوي بعيد الاستقلال الرسمي الذي انتزعناه كلبنانيين بوحدة شعبنا في 22 تشرين الثاني 1943، هل يصح القول إنه لم يكن الاستقلال الوحيد منذ إعلان لبنان الكبير؟
في الواقع نعم، يمكننا التأكيد أن اللبنانيين حقّقوا أكثر من استقلال ودفعوا أثماناً باهظة للتحرّر من عدّة احتلالات وإن كانت مباشرة على فئة دون أخرى.
كان الاستقلال الثاني يوم الانتصار على هيمنة السلاح الفلسطيني، ويوم تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، فيما لم تنس الأجيال الحالية بعد تحرّر لبنان من الاحتلال السوري عام 2005.
غير أن من دحروا الجيش السوري يدركون تماماً أنهم وقعوا لاحقاً في قبضة احتلال جديد، محلي الصنع، تسلّل إلى نظامهم بخفة ساحر وأتقن فنّ التلاعب به، حتى تحكّم بكافة مفاصل الدولة المتهالكة، وبنى لنفسه إمبراطورية داخلها، متحكماً بمصير اللبنانيين في حياتهم وأمنهم وسلامتهم، حتى بات التحرر منه ومن سطوته مهمّة شاقة. وأصبحت محاولات من يعارضون سياسته للتخلص من غطرسته ضعيفة ومبعثرة.
لكن لماذا لم يتّحد اللبنانيون في كافة الاحتلالات اللاحقة كما فعلوا عام 1943 كي يتجنبوا الغرق مراراً وتكراراً؟
إذا تأملنا للحظة وأعدنا استحضار بعض لحظات الماضي، سنجد أن كل مرة وقع فيها اللبنانيون في المحظور، وعزموا بعدها على فتح صندوق التاريخ لاستخلاص العِبَر، اختلفوا حول التفاصيل الكبرى والصغرى، ليغلقوه مجدداً ويستمروا في إنكار حقائق كان من الممكن أن تقيهم من لعنة التفرّق والشتات مراراً وتكراراً.
مع ذلك، لم يتنبّهوا إلى لعبة القدر وإلى العِبر التي تسلّلت خلسة من فتحات ذلك الصندوق بعدما غلّفه الصدأ ونخره الاهتراء، فنجحت رغماً عنهم في لمّ شملهم جزئياً عندما استخدمت عصاً سحرية لتقودهم مرّة إلى طاولة اتفاق الطائف، ومرّة لتوحّدهم في ثورة الأرز، وتقارب وجهات النظر في ما بينهم خلال حرب التحرير.
آن الأوان إذاً لتحقيق الاستقلال الخامس والأخير، لنصنع وطناً ينعم بالحرية والسيادة، ولا يكون ساحة للصراعات والانقسامات.
هناك من سيقول لا يمكن الحديث عن استقلال عن أحد مكوّنات البلد وهيمنتها. صحيح لا يمكننا طرد فئة بأكملها من اللبنانيين تنتمي مثلنا لهذه الأرض.
ماذا إذاً، هل سنطبق قانون المحاسبة؟ نعم، المحاسبة ضرورية، وبقاؤها حبراً على ورق لسنوات أغرق البلد في المزيد من المتاهات.
إنّما لننظر حولنا قليلاً: كيف يمكن محاسبة شعب اقتُلع من أرضه وفقد الأمان يوم تشرّد؟ بالتالي لا، لن نُحاسب.
ما سنفعله هذه المرة هو وضع النقاط على الحروف والقول بوضوح: لن نسمح لأي مكوّن لبناني بعد اليوم أن يُرتهن للخارج مجدداً على حساب وطننا. لا سيما وأن “حزب الله” اعترف على لسان أمينه العام بأنه يستمدّ تمويله من دولة خارجية تُدعى إيران.
هذه المرّة سيكون استقلالنا عن إيران التي وضعت طائفة بأكملها في مواجهة مع الآخرين مع بعض الاستثناءات في الطائفة، تكاد لا تُذكر، ليس بسبب ضعفها، بل لأن رأس الأفعى نجح في إسكاتها وكبت أصواتها.
ولننظر أبعد من ذلك، فاليوم المكون الشيعي، ممثلاً برئيس مجلس النواب، يفاوض وحده على وقف إطلاق النار وتجريد “حزب الله” من سلاحه، بينما سيتم اختيار “أرانب” الرئيس بري على “طبلية” الحفاظ على ماء وجه الطائفة الشيعية.
نعم الطائفة الشيعية اليوم أخذت على عاتقها، برضاها أم لا، تحرير لبنان من سلاح “حزب الله” والهيمنة الإيرانية غير المباشرة ومصيرها العودة إلى حضن الوطن مهما كابرت وهدّدت ولا تزال حتى هذه اللحظات.
الاستقلال الخامس على الأبواب ولن نكون بمأمن من احتلال سادس. لذلك حان الوقت اليوم لفتح صندوق التاريخ بجدية، ونستخلص منه كافة العِبر بعدما دفع اللبنانيون دون استثناء ثمناً باهظاً من دماء وتضحيات. فضلاً عن حق الأجيال المقبلة في عدم العيش رهينة أخطائنا.