لليوم الرابع، واصل موظفو «أوجيرو» إضرابهم الذي أدّى إلى تعطيل أكثر من 4 سنترالات أساسية في بيروت تحتاج إلى الكهرباء والصيانة وتخدم أكثر من 100 ألف مشترك. «المشترك رهينة والمطالب محقّة»، هكذا علّق رئيس مجلس إدارة هيئة أوجيرو عماد كريدية، كأنه لا يريد الانفصال عن طبقة السلطة، فيما هو من موظفي الإدارة الذين لحق بهم أذى كبير بعد تدهور دخله من 20 ألف دولار شهرياً إلى 900 دولار. وهو موقف مغاير لموقف المديرين العامين في الإدارة العامة الذين عقدوا سلسلة اجتماعات قادتها رئيسة مجلس الخدمة المدنية نسرين مشموشي، بالتنسيق مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لسحق الإضراب المفتوح الذي نُفّذ قبل أسابيع مقابل «بدل إنتاجية» بخس، وتحذير من لا يقبل به بالطرد. المديرون العامون أسقطوا الإضراب في مواجهة «شبه النقابة» في رابطة موظفي الإدارة العامة، ليس لأنهم أكثر ذكاء، وإنما لقدرتهم الأكبر على التذلّل لزعماء طوائفهم ولاسترضاء ميقاتي.
تجربة الإضراب المفتوح بحدّ ذاتها تعدّ إشكالية. كيف يمكن لأي جهة أن تنفذ إضراباً مفتوحاً تكون تداعياته مؤذية للمجتمع والاقتصاد وتعطيل مصالح الناس؟ ثمة كثير من الضرر الذي يخلّفه إضراب ليوم واحد، فكيف عندما يفتح الإضراب على مصراعيه؟ لا إجابة «حيادية» في هذا المجال على طريقة كريدية. ولا تذلل واسترضاء على طريقة مديري الإدارة العامة، بل المسألة واضحة للعيان: الأذى الذي لحق بالمجتمع بسبب إدارة الأزمة كان أكبر على العاملين في القطاع العام لأن مسار تصحيح مداخيلهم بيروقراطي ومرتبط بالخزينة العامة، حيث بنى أركان السياسة شبكة قويّة من المصالح تتيح لهم الاستمرار في الحكم.
في الواقع، لا حاجة لبحث طويل لاكتشاف ما حصل في السنوات الثلاث الأخيرة. فقد عملت قوى السلطة على خطّين: تهدئة الوضع الناشئ عن إفلاس المصارف، وإعادة تفعيل قنوات التوزيع. أنيطت هذه المهمّة بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. قوى السلطة اجتمعت وراءه لتقول: سنواصل دعم أسعار السلع الأساسية مثل البنزين والمازوت والحليب والأدوية وسواها. في الشق الأول، صدرت تعاميم تقلّص القيود الصارمة على عمليات السحب والتحويل التي فرضت في الأشهر الأولى للأزمة. فجأة، بدأت المصارف تسدّد 400 دولار نقداً لكل حامل وديعة، وفجأة أيضاً ظهرت منصّة «صيرفة» ثم منح الأفراد «ترخيصاً» بالعمل كمضاربين ضمن سقوف محدّدة مثل بيع الدولارات في السوق وشراء دولارات مقابل الليرات التي معهم على سعر «صيرفة» لتحقيق أرباح خيالية بلا سقوف. أما سحب الرواتب للعاملين في القطاع العام فقد كان متاحاً بالدولار النقدي على سعر «صيرفة» وتحويله إلى ليرات في السوق الحرّة لتحقيق أرباح. ثم حدّدت سقوف لهذه العمليات ما زالت قائمة لغاية اليوم بقيمة 500 دولار للأفراد. لكن في هذا الوقت، كانت السلطة قد قرّرت التخلّي عن دعم المازوت، وتخلّت أيضاً عن تمويل شراء الفيول لزوم تشغيل معامل الكهرباء. وافق الناس، ولو بتململ، على كل هذه الإجراءات طالما أنهم أصبحوا صرافين مجبورين على العمل في الإطار الذي رسمه حاكم مصرف لبنان.
عملياً، لم يكن هناك أي داع لفرض سطوة سلامة على النقابات. فالسلطة قامت بشغلها في هذا الإطار منذ زمن بعيد، وحوّلت النقابات والنقباء، سواء النقابات العمالية، أو نقابات المهن الحرّة إلى دمى في خدمتها. لذا، لم يتعامل أي من هذه القوى مع أهداف إدارة الأزمة الرامية إلى تحميل المجتمع خسائر ضخمة تموّل استمرارية قوى السلطة. وهذه الخسائر لا تتعلق بإضراب له تبعات ونتائج، بل بالواقع الجديد الذي خلقته قوى السلطة وفرضته على المجتمع. فمنذ أكثر من سنتين، يصعب الحصول على الخدمة الطبية بسبب الأكلاف الباهظة. ولا يمكن الاستغناء عن السيارة رغم كلفة البنزين الهائلة بسبب عدم وجود نقل عام مشترك. ولا يمكن الاستغناء عن مولّدات الأحياء لأن السلطة قرّرت أن تلغي خدمة الكهرباء من الوجود. إذاً، ما المانع من أن يقوم بعض الموظفين في «أوجيرو» بإلغاء قسم من قطاع الاتصالات ردّاً على استهزاء السلطة بالمقيمين على أراضيها؟ هؤلاء يضربون من أجل معاملتهم بالمثل مع موظفي الإدارة العامة، أي الحصول على بدل نقل بقيمة 95 ألف ليرة يومياً، وبدل إنتاجية، ومساعدة اجتماعية… هؤلاء ليس لديهم طموح بإصلاح السلطة وإقالة مديرها التنفيذي رياض سلامة، بل يريدون منها ومنه، أن يمنّوا عليهم بـ«ترقيع الأجور» الذي منحته لموظفي الإدارة العامة وللعاملين في القطاع الخاص.