بعد شهر على استقالته في ظل الظروف الغامضة التي احاطت بها ورافقتها، عاد رئيس الحكومة سعد الحريري عن استقالته في اجواء تشبه الى حدّ بعيد اجواء اعلانها، من حيث الغموض في المباحثات والمشاورات والكثير من السرّية التي أجراها الحريري مع مَن كانوا خصومه في السياسة، وكانوا على علم ومعرفة بكل مندرجاتها ودقائقها، ولم يعرف بها مَن كانوا حلفاءه ورفاقه على مدى 12 سنة، الاّ لحظة اعلانها في جلسة مجلس الوزراء امس.
العودة عن الاستقالة كانت محسوبة ومتوقعة منذ اعلان الحريري تريّثه، لأن جميع مظاهر العودة كانت بارزة في احاديثه وتحركاته، والقرار الذي اتخذته الحكومة باجماع اعضائها لم يكن مفاجئاً لأحد، لأنه كان هناك شبه اقتناع عند جميع اللبنانيين بأن حزب الله لن يقدّم أكثر مما هو وارد في بيان الحكومة وفي خطاب قسم رئيس الجمهورية، إن لم يكن أقل، وعلى أي حال، ومن باب التحلّي بالايجابية والتفاؤل، لا يعوّل اللبنانيون على أكثر مما هو وارد في بيان الحكومة، وخطاب القسم وقرار مجلس الوزراء امس، والأمل في تنفيذ ما تمّ اعادة التفاهم عليه بين مكوّنات هذه الحكومة، على اقلّه في الاشهر الخمسة المقبلة قبل الوصول الى استحقاق اجراء الانتخابات النيابية في شهر أيار المقبل، إن لم يحصل ما يجعل اجراء الانتخابات مستحيلاً.
بنود قرار التوافق الذي حرص الرئيس الحريري على اعلانه شخصياً، اصبح الآن معروفاً من جميع اللبنانيين، ولكن مداخلة الحريري اثناء انعقاد الجلسة، صيغت بعبارات تختلف عمّا ورد في القرار، وربما كان الرئيس الحريري يتمنى ان تكون جزءاً من القرار الحكومي، فرئيس الحكومة يحذّر من ان اي دعسة ناقصة من الآن فصاعداً سوف تجرّ البلد الى منزلق خطير، ولم يكن سهلاً عليه ان يشير الى ان «رئيس حكومة لبنان محكوم بالاعدام في سوريا، وان حزب الله – الشريك في الحكم – مصنّف على انه ارهابي في دول الخليج، وهذه مشكلة لا يمكن تجاهلها والقفز فوقها، كما ان التهجّم على دول الخليج في الاعلام والسياسة امر يهدد لبنان ومصالح اللبنانيين، وحذّر من ان التدخل في شؤون دول الخليج الداخلية، ستكون له انعكاسات خطرة على أوضاعنا ومصالحنا.
* * * *
اللغة التي استخدمها الرئيس الحريري في مداخلته، ارادها صريحة وواضحة وتحذيرية بامتياز، لأنه قد لا يجد فرصة ثانية سانحة مثل هذه الفرصة، ليعبّر عن مخاوفه وهواجسه، خصوصاً في هذه المرحلة المأزومة من تاريخ الدول العربية، خصوصاً تلك التي تغرق في دمائها، والتي قد تغرق في اي وقت ولحظة، وكأنه في مداخلته يقول لجميع اللبنانيين، وخصوصاً لحزب الله، «اللّهم اشهد أنّي بلّغت».
المطلوب الآن من الرئيس الحريري، بعد عودته عن استقالته، والحصول من مكوّنات حكومته على تعهّد بأن ينأوا بأنفسهم عن مشكلات المنطقة وصراعاتها وحروبها، بالفعل وليس بالقول او على الورق، ان يهتمّ باعادة وصل ما انقطع بينه وبين حلفائه في قوى 14 آذار، جميع قوى 14 آذار، وان يصمّ أذنيه عن الوشايات والدسائس من أي جهة أتت، ويعرف صحّة المثل الذي يقول من «يتعرّى من ثيابه يبرد». فكيف ولبنان مقبل على عواصف وثلوج، قد تكون أقسى من عواصف المنطقة.