I ـ سيرة ذاتية
هناك شيء ما زال حياً بعد نصف قرن من العمر. كان من المفترض أن أنساه، أو أن أدفنه. شيء أقوى مني وتغلّب على رغبتي وإرادتي بالنسيان. شيء له علاقة باستقلال لبنان. أعترف بأن الاستقلال، لم يكن يعني لي شيئاً، وعندما وجدت معناه، متأخراً، لم يعد شيئاً جديراً بالاهتمام، حتى لأصحابه. لقد تخلوا عن آخر مظهر من تجلياته: العرض العسكري والاستقبالات في القصر الجمهوري و… الأسهم النارية إلى جانب الأناشيد الحماسية.
هناك، في المنسيات عن قصد، شيء يروى، قريب من السيرة ووجع الإحساس وقسوة الماضي.. كانت قريتي وطني. حدودها متصلة بمرمى نظري، وهي حدود متصلة بالشعور وتحدِّد الانتماء وتؤمن الاحتضان.. قريتي، على بؤسها يومذاك، كانت مشتهى إيماني، وتلك خصوصية في التقشف والاختزال والامتناع. لا يأخذ الوطن الواسع معناه، إلا عندما يصير جزءاً من القرية، جزءاً حميمياً.
قريتي لم تكن كذلك. انتسبت الى لبنان جغرافيا، ولبنان لم ينتسب إليها. لذلك، ظلت وطني الصغير، وبها عوضت عن «لبنان الكبير» الذي قرأت عنه في الكتاب ولم أجده في وقائع الأيام. علماً أن قريتي لم تكن نائية جداً، فهي منتهى البقاع، وبوابة الجنوب ومجابلة للشوف (اشتقاق شبيه بـ:مشاطئة)، وبعيدة عن بيروت جداً، لأن بيروت وما ومن فيها وحولها، نأوا عنها كثيراً.
هي مشغرة، عاصمة المزارع وحاملي غلال الأرض من حولها، حاضنة مصانع الدباغة الرائدة وعمالها وناسها. مصانع دشنت عصر الصناعة الناجحة والنامية والمصدِّرة الى فلسطين والشام وبغداد. تعرف الدولة والدولة لا تعرفها، لعلها كانت مختلفة عن غيرها من القرى، إذ لا يمكن أن تؤخذ من مكانها الطبيعي، ومن سيادتها على نفسها، طيّعة لقيادات وأعيان، يبيعون ويشترون مع العاصمة، نفوذاً وعلاقات، لعل السبب في ذلك يعود إلى ان قريتي تحررت من الانتماءات القبلية، الى الانتماءات الحزبية والعقائدية، فعاشت بين تيارين عقائديين وسياسيين: «القومي» و«الشيوعي» فقط.
لم تعرف مشغرة الحزبية اللبنانية، خريجة بيروت وجبل لبنان. لم تكن «دستورية» أو «كتلوية». لم تعرف ولاءات عابرة على قاعدة الولاء للطائفة أو المذهب. مكتفية كانت بما استضافته وأضافته للحياة الحزبية من شبابها وشاباتها ونقابييها ومناضليها. ولعل هذا الإبداع كان سبب اللعنة التي حلت على قريتي، فصنفتها الدولة في خانة الخارجين على مدرستها، فأخضعتها للرقابة والتجسس وحرمتها من الوظائف والخدمات وتمنعت عن قبول أبنائها في الأسلاك العسكرية والأمنية، وأقفلت بوجهها أبواب التأهل في المدرسة الحربية.
قصاص وظلم بلا ذنب مادي. كانت مشغرة تفكر بطريقة أخرى، لا تلتفت إلى الطائفة أو المذهب، علمانية وشعبية وديموقراطيتها تعبّر عنها انتخابات بلدية حزبية، بلا لوثة دينية.
هناك شيء ما كان يجب أن أنساه، عاد إليّ هذا العام، بمناسبة ذكرى الاستقلال. حيث ستمر المناسبة، بلا زهو ولا فخامة ولا استعراض، أي، بالتمام، كما كان يحدث من زمان في قريتي. كانت المناسبة جافة وبلا زهو ولا أعلام.
تحسست معنى الظلم، مذ كنت طفلاً وصبياً. كان الدركي ورجل الأمن يتعاملان معنا كأعداء، ولما دخل الجيش «المفدى» بلدتي، دخلها غازياً، مراراً، كأنها قرية طافرة عن منظومة الانتظام في النظام. دخل واعتقل شباناً وشابات ونساء ورجالاً وأذل الشيوخ وجرجر بعض الناس في الأزقة والشارع العام، وجلدهم عراة على مرأى أناس مرعوبين… صبي في مقتبل الحب، بحاجة الى علم يظلله، صدمته القسوة… هذه هي الدولة عندما تعرفت عليها. لقد حضرت لتعاقب. وظلت كذلك، قرية ملعونة.
كبرت قليلاً. نسيت قليلاً. تشهيت أن أقع في حب وطني بلا التباس، ففشلت، ولم يكن الحق عليّ، فأشركت في حبه المرتجى، حباً لفلسطين وبلاداً أخرى كثيرة، كانت تدعى بلاد المظلومين، من الاستعمار والاستبداد.
كبرت قليلاً. شاركت التلاميذ في برامج التدريب العسكري. عنّ على بال المدرب أن يشركنا في التفرج على الاستعراض العسكري بمناسبة الاستقلال. حماستي دفعتني إلى أن أقف في الصفوف الأمامية، كي أتمتع بالاستعراض، وتحديداً على أرصفة مستشفى البربير. وكانت جائزتي أن حصلت على ضربة من كعب بندقية في كتفي، وشتيمة تطال أمي ومطلب وقح يدعوني فيه إلى أن أتراجع إلى الخلف. وتراجعت زمناً ولم أعد بعد. ولم أتفرج من حينها على استعراض.
لم أكن مذنبا. لم تكن قريتي آثمة. استنتجت: «أحبك يا وطني فلماذا تضربني؟»، ثم توالت الأحداث والسنوات حتى بلغنا الحافة وصرنا على وشك الهاوية، وأيقنت انه مكتوب عليّ (وعلينا) ان نعيش بلا أب. حالة يتم وطني، تلك هي سيرة الكثيرين.
I I ـ ولكنه لبنان..
هو كيان موجود بحدود جغرافية ومصان بنصوص دستورية ومحتضن من وصايات عديدة، تجعله عالة على غيره وعلة لإلغائه. هو كيان بتوصية انتدابية، ليكون دولة حقيقية بشعبين، اتصلا لتأمين منفعة، وانفصلا عندما اختلفنا على الجبنة. هو كيان بصيغة ديموقراطية ملغاة بالتوافق المفروض تأمينه، وسلطة منحت كجائزة لأعيان وأتباع وحفدة إقطاع ونخب مدينية طيعة ووكلاء إدارة انتهازية، ولاؤها للبنان مشروط بتأمين حصتها، وخيانة ولائها للبنان مشروطة بحرمان أو افتئات. وأنا و(نحن) ما علاقتنا بكل ذلك؟
كان من المفترض أن يستقل ويكون سيد نفسه. فشل في الامتحان. استقلاله هش وسيادته رثة. استقلال مرهون بامتحان عدم الانحياز والنأي بالنفس، و»هيك وهيك» على حد تعبير الحاج حسين العويني، وكيف لبلد أن ينأى عن شيء هو منه وفيه؟ كيف له أن يدير ظهره لدول وقضايا، «تهز شعوبه» المنضوية تحت علمه وميثاقه؟ أكثر البلدان تأثراً وتحسسا وتحركا، بسبب ما يجري في المنطقة، هو لبنان… من رذائل هذا النظام الكثيرة، فضيلة كبيرة: الحرية، فلا حرية تضاهي حرية عدم النأي بالنفس… سقط الاستقلال مراراً، حتى بات الاحتفاء به بحاجة إلى تناسي الاحتفالات والشعارات والسيادة…
الكيان، ما زال كيانا، ولكنه على قارعة التناوب عليه وتناوبه مع من هم معه أو من هم عليه… سيَّان.
I I I ـ من تكون يا لبنان؟
غداً، عيد الاستقلال. فكرة الوطن أقوى منا، التخلي عنها، عيش في العراء. مواطن بلا وطن، نوع من الكفر والتجديف. نحن بحاجة إلى وطن. كل أرض أخرى تتبرم بنا ونتبرم بها. من يشتهي أن يكون أجنبياً فيه، فسينتهي به المطاف إما إلى تركه أو تأكيد معموديته فيه والانتماء إليه. أوطاننا أرواحنا. بلدنا يظلمنا بمن تنكب فيه المسؤولية. حالات الاستهتار بنا جاهدة. انه الفراغ من كل الجهات، فإلى أين المفر من لبنان؟
لم أقتنع حتى الآن بما كتبت أعلاه. أحياناً ينتابني جنون ذو جاذبية. «اهرب من بلدك والتحق بأرصفة العالم». التشرد في الأمكنة وطن المنبوذين. المنافي أوطان مؤقتة، وما تبقى من العمر، يكافأ باستراحة المحارب. لكن، ما عاد لي وقت للهرب منه، أو حتى للبحث عن لبنان فيه. كنت أمر أحياناً بلحظات من المرارة وألعن اللحظة التي ولدت فيها هنا. منذ طفولتي وحتى ما قبل النهاية بقليل، وأنا مفطوم عن وطني. لا أم لي في هذا البلد. القهر يملأ صدري، القصة تشنقني من حنجرتي، والآن تجفف ما في الروح من عذوبة الحنين إلى حضن.. أغرتني الهجرة مراراً، وفي كل مرة، كان وشم الوطن الذي في روحي يؤنبني ويعذبني ويبكيني. لم أجرؤ على قتل وطني فيّ، إذ، بعدها، أنا القتيل.
أقول لنفسي: لن أكون عاقا. لا بأس إن كنت أحب لبنان وأكرهه في الوقت نفسه. فعل الحب يمحو إثم الكراهية. وأقول أيضاً: عوّض عن انتمائك لبلد لا ينتمي إليك، بانتماءات لقضايا. أحاول أن أقنع نفسي، فلا أجد غير فلسطين. وحدها تحتفظ بحرارة الانتماء والالتزام، وكل ما عداها، دخان وحرائق وقتل… لا انتماء للقرف والجريمة والتخلف والزعبرات المذهبية. أقول لنفسي: صفّ حسابك مع بلدك قبل أن تجحده. أفعل وأسأله: من تكون يا بلدي؟ لا جواب. هو موجود بهويات لا حولها. أسأله: لمن أنت يا بلدي؟ لا يجرؤ على النطق. فهو معروض للبيع والشراء والرهن والإيجار والإلحاق، ويستعصي على كل ذلك. أسأله: إلى أين أنت يا بلدي؟ كأنه يجيب: اسأل الآخرين، فأنا مقطور في اتجاهين متعارضين، فلا أذهب إلى هناك ولا أسير إلى هنالك. متوقف أنا، لا أين لي أمضي إليه، ولن أصل إلى مكان. أتمزق وأتفتت، والاتجاهات بانتظاري، بإرادة «شعوبي»… وأسأله: لماذا أتت هكذا؟ ولا يجيب، ولن أسأله أكثر من ذلك. هو بحاجة إلى صمت كي يستعيد استقلاله وسيادته. هو بحاجة إلى حكاية تأسيس أخرى وإلى سردية مستقبلية كي تعود إليه جاذبيته. ماضيه مكتظ ودام. حاضره خطير ومتعب ومرهق. لن يعيش هذا البلد إلا بجديد، فالمستقبل آخر، غير المستقبل المتوقع. الطوفان التكفيري والاستبدادي، يقضيان عليه من بعيد. أمله بأن لا يظل قادته وأبناؤه والمستفيدون منه، في حالة عقوق.
منذ ستين عاماً، كنت أطمح لأن يقشعر بدني عندما أسمع النشيد الوطني. لم يرزقني هذا الحلم قشعريرة واحدة، ولكنه أورثني دمعة. فكلما سمعت النشيد الوطني تذكرت طفولتي وقسوة العسكر وظلم ذوي الدولة… ونأيت بعيداً.
فيا بلدي الذي أحب… لماذا تكرهني؟