كيف أستعيد وطني الذي أَضعته وأضاعني وأحببت أن أحتضنه ويحتضنني وحلمت بأن أسكنه ويسكنني، وطني الذي علّمني إن تهت عنه أو تاه عني أن أعود إلى كتاب الوطن فأجده ويجدني، والكتاب مُمزّق مُحرّف مُخترق بألف عُرف وعُرف، والرايات مُنكّسة، والمؤسسات منهوبة من الحرّاس وقطّاع الطرق، بعدما استقوى شذاذ الآفاق على الأسوياء وشُرّع الفساد وجُوّفت القيم والأفكار والرسالات من غاياتها النبيلة، واقتُلع الآمنون من بيوت الألفة والسكينة والمحبّة وجار الجار على الجار وتقطعت أوصال القربى والذكريات وأصبح المواطن غريباً لقيطاً بلا جذور ولا أمل.
يا وطني أنا شيطانك الأخرس الساكت عن الحق والحقيقة، والذليل أمام الظالمين من أبنائك الذين أضاعوك ومزّقوك وتقاسموك ونهبوك وقتلوا أحفادك ومريدوك، والمؤمنين بسيادتك وتألقك وقوّتك ووحدة شعبك وأراضيك، وأباحوا مناعتك وهيبتك وكرامة أبنائك للطغاة الطامعين من أهل الجوار والجيران والأخوّة في الهويات والأديان ودول الشرائع والحقوق لشعوبهم واستعباد الآخرين. يا وطني مِن بعدك نعيش في تيه ما بعده تيه، توازعتنا الميليشيات والعصبيات والعصابات والسفارات والخرافات وأضعنا المدن والسواحل والجبال والسهول والعتابا والميجانا والزجل والليالي المقمرات والنجوم.
يا وطني أبناؤك الذين هجروك قبل عقود عرفوا (أن المحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق)، يومها كانوا هناك وكنت يا وطني هنا، فتيّ جميل طموح ودود فكتبوك وأنشدوك وغمرتهم بمحبتك وغمروك بفيض وجدانهم وحنينهم إلى ربوعك رغم الفقر والجوع… أمّا الآن يا وطني فنحن لا نحبّ ولا نشتاق ولا نغني، ونخجل من أداء النشيد ولا نشعر بالجوع أو العطش، لأننا أكلنا قلوبنا وشربنا من دماء أهلنا وجمعنا الثروات من خيانتك وضياعك وانتصرنا على وحدتنا وكرامتنا ومستقبل أطفالنا، يا وطني من بعدك نحن الأحياء الميّتون.
يا وطني كلنا لسنا للوطن، لا شيء يجمعنا وكل أمر يُفرّقنا، وكلنا قادة بلا جنود، نكره ونغرّد ونلعن ونشتم بلا حدود، وكلنا ورثة أمجاد وخلود قبل لبنان وبعد لبنان وبعضنا قبل الوجود، وكلنا عظماء ومتفوّقين نعرف كيف تُدار أوروبا ونتابع في أميركا دقائق الأمور، ونكتب عن تقدّم وتطوّر الشعوب ونسمّي الأشياء بأسمائها وبلغاتها، ونعرف تاريخ الثورات والشرائع والعقود والأديان السماوية والطوائف والمذاهب المسيحية والإسلامية، وندّعي بأننا ورثة بركة الصحابة والتلاميذ وأعلام التنوير، ونحن يا وطني بلا دولة أو حدود، وبلا ماء أو كهرباء وغارقين بالعطالة والبطالة والتلوّث والخطب الجوفاء وأصبحنا كتلاً من الوهم والجهل والكراهية العمياء.
اشتقت إليك يا وطني، أمَا مِن سبيل يُعيد وصل ما انقطع جيلاً بعد جيل، ونشاهد في سكينتك من جديد أفراح الشهب ووقار القمر الجليل وموسم العز الرحباني في ليل بعلبك الحميم وتنادينا الشحرورة صباح (يا شباب لوين عالساحة ارجعوا نحنا ما قطعنا الأمل)، ويُذكّرنا وديع الصافي (نحنا زرعنا الدني عامْطَلنا العالي وحقلي ترابها غني وأيام عا بالي)؟ اشتقت إليك يا وطني الحبيب، أمَا مِن سبيل يُعيدني إلى ساحة الشهداء وساعة الزهور الناطقة بالحبور وشارع الحمراء ومسرح البيكاديللي و(الهورس شو) حيث عرفت وليد غلمية ورفيق شرف وكثيرين؟ اشتقت إليك يا وطني وإلى رشاقة وذكاء قلم ميشال أبو جودة، وشجاعة وبداهة سليم اللوزي، وإلى مدنية أمين الحافظ وريمون إدّه، اشتقت إليك يا وطني وأنا شيطانك الأخرس، وربما اشتقت إلى نفسي قبل الرحيل.