ما كانت الرعونة مرّة جزءاً من برنامج عمل أصحاب القرار في الشأن العام. فكيف الحال، وذلك الشأن هو مطحنة دموية، طحينها أرواح ناس، وعمران دول. وخبزها حنظل تغطي مراراته الكرة الأرضية ويفيض عنها!
وما كان الانفعال بدوره شيئاً يُعتدّ به في الحروب الكبرى أو الصغرى. ولا حتى على المستوى الخاص بتصرفات الأفراد، حيث الرواية الحكيمة تروي أنّ صاحب الحق سلطان، لكن انفعاله يحيله إلى خاسر بالعشرة، وبالجملة والمفرّق.. فكيف الحال، وذلك الانفعالي المغالي المكابر الغلوائي الشاطح تحت وطأة أوهامه (وخسائره) لا يملك في الأساس أي حق في حربه الراهنة، بل تراه خارجاً من ثيابه الموشّاة من أوّلها إلى آخرها بجدلية الحق والجور! وثنائية الدم والسيف!
بعض ما يُقال في نواحينا في هذه الأيام عن حلب، لا يخرج عن كونه انفعالاً غير سوي. ورعونة لا تقدّم أو تؤخّر في شيء، سوى أنها، في الحقيقة التامة والصافية، تدلّ على تنامي عوامل خلل خطير في مقاربة الأمر، وإصرار على نكران حقائق سياسية تتراصف فوق بعضها البعض، وإمعان في شطط لا يليق بأحد، وقصور عن قراءة ما يحصل ميدانياً على الأرض في مقابل «اللجوء» الدائم إلى السماء!
مستجدات الأيام القليلة الماضية، على المستوى الاقليمي (التركي) والدولي (الروسي) تتمم حديث «الهدنة» الطويلة التي حكت عنها موسكو بحرارة منذ مدة.. بعيد الخطاب المعجزة لبشار الأسد الذي وصل فيه إلى ما انتهى إليه صنوه الآفل معمر القذافي! وتحديداً لجهة الحديث عن «تحرير» سوريا من الإرهابيين «شبراً شبراً».. وحديث السفير الروسي في دمشق (في دمشق!) الكسندر كيشنشاك يوم أمس تحديداً، يبدو توضيحاً إضافياً معروضاً أمام مَن يصرّ على عدم الاستيعاب! ولا يزال يفترض أنّه قادر على خبرية «الحسم العسكري»!
قال السفير بالحرف، إنّه «لا يتوقع» أي هجوم لجيش النظام (بقايا السلطة الأسدية) على حلب.. ولا حتى على الرقّة (الخاضعة بالمناسبة لـ»داعش»!) وكلامه هذا يأتي بدوره غداة الخطاب الأخير للأمين العام لـ»حزب الله» الذي جعل من «معركة» حلب أم المعارك وبنى عليها استنتاجات وخلاصات غريبة بالفعل، مع أنّه أوّل العارفين باستحالة الأمر وبُعده عن الأرض بُعد الأرض عن سدرة المنتهى!
وما دون ذلك لا يعود كونه إمعاناً في المذبحة من دون أي أفق أو مردود!
منطق الأمور وأول الحصافة، يفيدان بأنّ إشارات الحسم العسكري لم تكن متوافرة أصلاً عند بقايا السلطة الأسدية ولا عند توابعها الإيرانية بما فيها «حزب الله»، حتى في ذروة «عاصفة السوخوي» والتوتّر الخطير بين روسيا وتركيا الذي تلا إسقاط الطائرة الروسية.. فكيف الحال اليوم وقد مرّت العاصفة وعادت سيبة العلاقات بين أنقرة وموسكو إلى الاعتدال وقوفاً؟!.. بل كيف يمكن الإيغال في حديث الحسم هذا وعدد من أهم المسؤولين الإيرانيين (بينهم وزير الخارجية محمد جواد ظريف نفسه) بدأوا يتملّصون من لغة الحواسم ويشيعون عودتهم إلى الاعتقاد بأن لا حل للنكبة السورية إلاّ الحل السياسي؟
عن أي حسم في حلب يتحدّث أقطاب الممانعة عندنا؟ ومتى يعود العقل عندهم من إجازته المفتوحة؟!