IMLebanon

يا ستّ الدنيا… يا بيروت

بيروت… عاصمة هذا البلد المنكوب، تتلقى في هذه الأيام العصيبة كل ما تيسر من الصفعات واللطمات وفشّات الخلق، يطلقها عليها وعلى شوارعها وساحاتها ومعالمها العمرانية والإقتصادية والحضارية… مجموعات من أبناء هذا الوطن الذي أطلقت تحركاته الشعبية متمثلة في جملة من التظاهرات والتجمعات والإحتجاجات وقطع الطرقات واحتلال المؤسسات، فأصبحت جزءا ملازما لحراكاتها وتوجهاتها التي بدأت بشعارات سليمة يؤيدها الشعب اللبناني كله لتصب في بحيرتها بالنتيجة مجموعات من المندسين والمدسوسين تغلغلوا في صفوفها، ومن المنحرفين الذين أخرجوها عن وجهتها الأساسية المطالبة بسقوط ممارسات الفساد بعد أن طاولت وعششت في هذه الدولة التي استقالت بالنتيجة الواضحة من كل مهامها ووظائفها، وباتت عاجزة عن أدنى حدود واجباتها المتمثلة في الحفاظ على مدنها وقراها وأحيائها، خاوية من النفايات والقذارات، فإذا بعجزها المستمر يصل بنا إلى هذه الحالة من الإحتقان والهيجان التي حرّكت جموعا شعبية هامة، نتيجة لما تكدّس من أكوام النفايات المادية والمعنوية والسياسية حيثما كان، وحيث مكّنت الأوضاع والظروف من رمي وتكديس الحثالات في أحياء العاصمة، خصوصا، أنها المدينة التي سبق أن أطلق عليها القريب والبعيد لقب لؤلؤة العواصم، ووصفها الشاعر نزار قباني بلقب «ست الدنيا»، وهي المدينة التي يعيش فيها ما يناهز نصف الشعب اللبناني، قدم إليها من شتى أنحاء الوطن ساكنا وعاملا وطالبا وموظفا وتاجرا ومستشفيا، وعاش فيها جنبا إلى جنب أخيه البيروتي، يأكل ويشرب ويتعلم ويعمل من خلال إقامته فيها. وكل المواطنين الذين يمارسون عيشهم الدائم على أرضها، تنتج بيوتهم وينتج عملهم في أسواقها ومؤسساتها وسياحتهم وترف عيشهم في أرجائها المختلفة، بقايا ونفايات، ها هم اليوم يتصارعون من حولها وكأنها معضلة عظمى تشاء مشكلات اللبنانيين  وخلافاتهم السياسية والإجتماعية والمناطقية أن تجعل منها معضلة القرن الحادي والعشرين، تتراكم فوقها العراقيل مستحيلة الحل!، وأول من يدفع الثمن هو بيروت، بكل معالمها ومصالحها وارتباطاتها بمصالح الوطن المادية والمعنوية، فإذا بها مع الأسف والحزن كله ممرغة بالأرض وبأوساخ نفاياتها، وممرغة معها، رتبتها العالية في التقدم والتمدن والتميز الثقافي والإجتماعي والحضاري عن معظم مدن هذه المنطقة.

أوليست بيروت اليوم المكان الذي تتكدس في شوارعه أكبر كوم الزبالة في العالم؟

أوليست معالم بيروت الإقتصادية والعمرانية هي من يتلقى أقسى عمليات التخريب والتعطيل والتشويه واقتلاع بلاط الشوارع والمؤسسات والأوتيلات التي مكنت بعض المتظاهرين من تقطيعها وتحويلها إلى حجارة يلقى بها على رجال الأمن، الذين لا شأن لهم ولا حول، إلاّ ما يمليه عليهم واجبهم في الحفاظ على المتظاهرين أنفسهم، وعلى سلامة الأملاك الخاصة والمؤسسات والمنشآت العامة.

أوليست بيروت هي من تحّول بعض المخربين من المندسين والمدسوسين في الصفوف الإحتجاجية إلى الإساءة التشويهية لبعض أماكنها المقدسة، ورموزها المتمثلة بشهيدين من كبار شهدائها وشهداء الوطن كله، وهما الرئيس رياض الصلح والرئيس رفيق الحريري.

أوليس الضغط والتشويه المادي والمعنوي وتحوير الحقائق يطاول في هذه الأيام السوداء رموزها في الحكم والحكومة بجملة من التحديات والإفتراءات والأكاذيب؟

ألا يمثل تهرّب البعض من تحمّل بعض أعباء التخلّص من معضلة النفايات بهذه الصور المتأففة التي ترفض أن يؤتى «بزبالة بيروت» إلى مواقع ملائمة من مناطقهم لأسباب قاهرة معروفة ومبرّرة، مركزين على أن الدولة قد تناست بعضهم واستثنتها طويلا من اهتماماتها الإنمائية، دون أن يأخذوا بعين الإعتبار ما للجمعيات البيروتية الأهلية، قديمها والحديث من وجود إجتماعي وخيري لديهم، ومن بينها، جمعية المقاصد التي وزعت إمكانياتها القليلة نسبيا، ما بين بيروت وعديد من المناطق والقرى.

بيروت هذه، تسمح لنفسها من خلال قلم إبن من أبنائها عاش في أنحائها وأجوائها وساحاتها وشوارعها وأزقتها ومدارسها وجامعاتها، ومنابرها عمره كله، هي في واقع الأمر، أمه الحنون، التي لطالما جال فيها طفلا وشابا ناشطا في أكثر من حقل ومن ميدان، تمّر هذه المدينة الأبية الوفية عليه وعلى أقرانه بمثل هذه الأحوال السيئة والمسيئة، وجميعهم يأسفون ويتألمون لما يطاول بلادهم عموما، ومدينتهم خصوصا، من صنوف الإفتراء والظلم. ويريعهم أن يروا مسؤولين في الحكم والحكومة يلقون اللوم في ما هو قائم من سوء وإساءات، في اتجاه مواقعهم ومواقفهم، وكأنما هذه الحكومة القائمة لا تضم إلاّ الرئيس تمام سلام الذي يدير شؤون الحكم والحكومة بكل حكمة واصطبار مذهل، مُضافاً إليه في تلقي الإساءة، وزراؤه من أبناء بيروت، وينسى الجنرال عون ومتظاهروه يوم الأحد الفائت أنهم متشبثون بمواقفهم في الحكومة التي يوكلون مسيرتها وأعمالها، وقد شاؤوا وما يزالون، الخروج عن الصف الإستقلالي والسيادي والتحريري، والإرتهان الكامل في توجهاتهم إلى النظامين السوري والإيراني وملحقاتهما في هذا البلد المنكوب، وها هم يعززون هذا الإرتهان على الدوام من خلال ممثليهم في الحكم والحكومة يقطّعون مفاصل الحركة السياسية والاجتماعية والمعيشية في هذا البلد مستعينين بعضلات حلفائهم لأسباب باتت معروفة ومكشوفة، ويستغربون بعد ذلك كيف لا يعتبر فريق من اللبنانيين، أن قيادتهم المتمثلة بالجنرال وملحقاته، هي قيادة مستقلة وحيادية وتستأهل إجماعا وطنيا عليها!، وهي بالرغم من أنها ما زالت مستمرة في إطلاق التهم والتهديدات الواضحة والمبطنة في نفس الإتجاهات ونفس التوجه، ولنا في كلمة الجنرال يوم الأحد الفائت خير دليل. كفى إمعانا في التصويب على بيروت وما تمثل ومن تمثل، فهذه المدينة أبية وعصية ولها تاريخ صلب ومشرّف ومقدام في كل الحقول والميادين.