Site icon IMLebanon

يا ظريف.. أنت تنفذ سياسة قاسمي

      

استقالة الوزير ظريف، ورفض قبولها من المرشد خامنئي والرئيس روحاني، والتأكيد على أن وزارة الخارجية هي المسؤولة عن علاقة إيران بالعالم، يكشف عن واقع يدركه المتابعون الذين يعرفون حقيقة صنع القرار في ذلك البلد ويرصدون توزيع المهام وتجاذب القوى، فالخارجية لا تتحكم في توجيه سياسة البلد وعلاقاته بالعالم، وبالأخص ما يتصل بالإقليم وتنفيذ سياسة «الثورة» وتشكيل «الوكلاء» ورعايتهم والعمل على تمكينهم في بلدانهم، فالحرس الثوري وقادته هم من يقومون بذلك، ويصبح دور الخارجية هو «الدفاع» عن تلك السياسة وتوظيف الأدوات «الترهيب والترغيب» لابتزاز الجيران وخلق المشكلات لهم، وليس من المتوقع أن «يستعيد» الوزير المغاضب كل الملفات، فالجنرال قاسمي، ومساعدوه، هم من يدير سياسة «الأمر الواقع» على الأرض، ويتركون للوزير ظريف تسويقها والتفاوض حولها وجني ثمارها، فإذا اقترب من الأهداف، كان له أن «يجير» النجاح لجهوده وكفاءته وإن «تعثر» أو أبدى مرونة وواقعية ونظر إلى المآلات «أعيد إلى الجادة»، حتى وإن غضب وهدد بالاستقالة، هذه حقائق مكشوفة، لم تعد الدعاية الإيرانية، ومن يحلب في وعائها، بقادرة على إخفائها أو التعمية عليها، ولم تعد تنطلي على أحد.

 

 

ومن باب الموضوعية والإنصاف أن يعترف المراقب بالكثير من نجاح السياسة الإيرانية، بغض النظر عن رفضها أو الحكم عليها بالصواب، ولعل من أسباب ما تحقق من نجاح يعود إلى: «وضوح الرؤية» وانسجام الأدوات مع الافكار، طوال العقود الأربعة الماضية، فكل أجهزة الدولة وقنوات اتصالها بالخارج تتضافر لتحقيق نشر «المشروع» وتكثير الأتباع وتوسيع دائرة المحايدين، على امتداد الساحة الإسلامية. نعم لم تكن المسارات سالكة، من دون عقبات ولم يكن الميدان خاليا من المناوئين والمقاومين، لكن المتحقق واضح، وإن جاء على حساب المواطن الإيراني الذي ترفع معنوياته القوة العسكرية والشعور بالقدرة على مواجهة الأعداء، لكنه يشعر بالإحباط حالما يعود إلى نفسه ويمشي في شوارع مدنه ويتجول في طرقات بلداته ويقارن واقعه بأحوال الشعوب من حوله، حينها يدرك حجم الخسارة وضخامة ضريبة الشعور بالوطنية، فهل ستطول قدرة الشعب الإيراني على تحمل تدني مستوى معيشته في سبيل «لحظة شعورية» لا تدوم إلا دقائق العرض العسكري أو خطاب البلاغة الفارسية؟

 

سيكون من مصلحة أهل المنطقة، جميعاً، أن تدرك طهران تعذّر تنفيذ «مشروع الهيمنة» القائم على توتير العلاقات وتفجير النسيج الاجتماعي بالصيغة الطائفية وخلق جيوب غير منتمية لأوطانها، فهذه السياسة قد تحقق بعض «الاختراقات» في المنطقة، لكنها لن تكون محصلتها في مصلحة الجميع، استطاعت الدعاية أن تستغل شعار «وحدة الأمة في مواجهة قوى الاستكبار» وتوظف إمكاناتها المادية في بيئات فقيرة في أفريقيا وأخرى بعيدة عن مناطق التوتر في شرق القارة الآسيوية، وإلى حدما في أوروبا وأميركا، وظنّت إيران أنها، بتوقيع الاتفاق النووي مع إدارة أوباما، واندفاع أوروبي للمشاركة في «كعكة» إعادة تأهيل طهران للعودة إلى المجتمع الدولي وفتح أبوابها للشركات والمال الغربي، قد تحررت من الضغط وتخففت من تهمة السياسة الطائفية وتشجيع النزاع في المنطقة، واعتقد قادة طهران أن الظرف موات لإلقاء تهمة الطائفية على من يقف في طريقهم، المملكة العربية السعودية، مستغلين حال عدم «الانسجام» بين الرياض وإدارة أوباما، خاصة في دورته الثانية، التي تكشفت فيها بعض نتائج سياسة «الفوضى الخلاقة»، تحسّن العلاقة ما بين واشنطن وطهران، في تلك الفترة، فتح شهية الدعاية الإيرانية لتتخلص من تهمة الطائفية ملقية باللوم على متحديها في المنطقة، ولم تكتف بالمنابر الإقليمية، لدى «وكلائها» فاتجهت إلى الإعلام الأميركي، ولم تقتصر على الكتاب والصحافيين والمعلقين المتعاونين معها واللوبي الإيراني النشط، فإذا بوزير خارجتها جواد ظريف يكتب مقالةً في النيويورك تايمز (سبتمبر 2016) بعنوان: «فلنتخلص من الوهابية»، لينتهي إلى أن الجماعات الجهادية هي حصيلة «رعاية الرياض للتطرف»، وكان الوزير نفسه نشر مقالةً في الصحيفة نفسها (يناير 2016) بعنوان: «التطرف السعودي الطائش»، قال فيها: «إنه في الوقت الذي وضع الرئيس حسن روحاني الصداقة مع جيراننا والسلام والاستقرار في المنطقة والتعاون الدولي على رأس أولويات إيران، كما برهن على ذلك الاتفاق النووي (يوليو2015)، إلا أن بعض الدول، وخاصة السعودية، وقفت حجر عثرة أمام جهود طهران لتحقيق الانخراط في البناء».

 

وهذا كلام لا يصدقه عاقل منصف، في المنطقة وخارجها، وينطبق عليه المثل: «رمتني بدائها وانسلت»، فالسياسة الإيرانية تجاه المنطقة العربية، للأسف، سياسة طائفية (في العراق وسورية ولبنان واليمن)، تستغل المشاعر لتحيي ما مات ودفن في مقابر التاريخ، ولتفتح به ثغرات يتسلل منها الشك والحقد وتصفية حسابات غاب أهلها، وتفسد به صورة استقرت لمئات السنين، فها هو لبنان: الثقافة والفن والسياحة وتجسير التواصل بين الشرق بالغرب، يربط الأحزمة ويصبر على تراكم المخلفات في شوارع عاصمته، ليصنع الصواريخ بإرادة وكيل الفقيه!! وها هو الشعب اليمني، يتساقط قتلاه ويئن جرحاه وتجتاحه الأوبئة وتتهدم منازله وتتمزق مؤسساته بأمر «وكيل وكيل الفقيه».

 

هذه الصورة القبيحة، هل يستطيع ظريف، مهما كان عليه من خفة دم وظرف، أن يطمس معالمها ويلمع تشوهاتها ويخدع المواطن العربي بأن سياسة بلاده تهدف إلى تحسين العلاقات مع الجوار، وأنها تحارب الطائفية والتطرف؟ سيتعب ظريف، وهو يحاول أن يصرف ذاكرة الإنسان في هذه المنطقة ويغيب وعيه عن أن إيران كانت وراء حال التوتر التي اجتاحت الكثير من المجتمعات، وأدخلتها في دوامة من الكراهية المتبادلة، مهما كانت الحجج والمجادلات واستحضار الأخطاء وسياسات غالبية الدول العربية تجاه التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية، سيظل الجميع مدركاً أن طهران كانت وراء ما حدث في العراق ولبنان واليمن، وأن الخروج من هذه الحلقة يستلزم توقف أدوات تحريكها.