سيطرت يد «الريع» الخفية على أول جلستين في القاعة «أ» من مؤتمر «الطاقة الوطنية اللبنانية»: جلسة «الغاز والنفط»، وجلسة «المصارف والتأمين». التشابه بين الجلستين بلغ حدّ التماهي في المداخلات المشبعة بأفكار مسبقة عن الإنجازات والبطولات، وعن الأرباح الهائلة السهلة والسريعة من بيع النفط ومن توظيفات المصارف في الدين العام
ماذا تتوقع من حضور أيِّ مؤتمر اقتصادي؟ الإجابة ليست بهذه الصعوبة، تتوقع نقاشاً معمَّقاً في المسائل الاقتصادية الحيوية والتطرّق إلى التفاصيل الحساسة، وتنتظر استضافة آراء ذات قيمة علمية وعملية عالية، وصولاً إلى «فتح» الحدود على الجبهات المعارضة لإطلاق منصّة حوار غايتها تحقيق المصلحة العامة… لكن هذه التوقعات تهاوت في مؤتمر «الطاقة الوطنية».
التلاعب اللفظي باسم المؤتمر جاء بغرض «تسويقي» ليدمج بين القدرات الوطنية والطاقة بأشكالها الاستهلاكية، وتحوّل المؤتمر إلى منصّة للترويج السياسي ــ المالي. التوقعات بوجود جلسات عمل جديّة كانت في غير محلّها، والحصيلة التي يمكن الخروج بها من الجلسة الأولى، هي «أن وزير الطاقة يقوم بأعمال جبّارة سيكون لها وقع اقتصادي هائل في لبنان!».
ولكن ليس كل ما قيل لا قيمة له، فقد وردت عبارة «مخيفة» على لسان رئيس هيئة إدارة قطاع البترول في لبنان، وسام شباط، مفادها أنه «ليست هناك استمرارية لنفس فرص العمل في قطاع البترول». لا يكتفي شباط بهذا المقدار، بل يضيف أن «66% من فرص العمل التي سيخلقها قطاع النفط والغاز في لبنان تكمن لدى موردي خدمات وموردي السلع لهم، وبالتالي إن الاستثمارات الرأسمالية في هذا القطاع هي في غالبيتها مستوردة». كلام شباط يسلط الضوء على مشكلة هائلة تتجاوز كل الإنجازات التي يتغنى بها المسؤولون الذين بات عليهم الإجابة عن السؤال الآتي: هل هناك جهوزية اقتصادية لاستقبال النفط الآتي من بحر لبنان؟ هل هناك جهوزية اقتصادية للتعامل مع هذا القطاع بمختلف مفاعيله؟
لا شكّ في أن الإجابة لم تأتِ في السردية الطويلة التي قدّمها وزير الطاقة، سيزار أبي خليل، والتي تناولت «إنجازات» وزراء التيار الوطني الحرّ في وزارة الطاقة من جبران باسيل وصولاً إليه.
فمعامل الكهرباء لم تنجز بعد مرور 7 سنوات على إقرار خطّة الكهرباء، فيما أحدث نسخة من الحلول المؤقتة، أي مناقصة شراء خدمات تحويل الفيول إلى طاقة من البواخر، أصابتها شبهات واسعة بالفساد. كذلك إن الحديث عن مقدّمي خدمات توزيع الكهرباء على اعتبارهم «أول خطوة تطويرية في قطاع التوزيع والصيانة» أمر قابل للدحض بمجرد عرض بسيط للمعطيات الرقمية عن قيمة العقود وارتفاع كلفتها مقارنة مع الكلفة قبل هذا النوع من الخصخصة.
الإجابة عن هذه الأسئلة كانت موجودة بالفعل في الجلسة الثانية، التي جرى فيها عرض واسع للعضلات المصرفية والتأمينية. التوصيف الفعلي للواقع قدّمه رئيس لجنة الرقابة على المصارف سمير حمّود. فهو كان مديراً في بنك «ميد» قبل تعيينه في هذا المنصب، ولديه اطلاع واسع على آليات عمل ما يسمى «النموذج اللبناني». يقدم حمود توصيفه لأزمة اقتصاد لبنان انطلاقاً من رؤية «مالية» بحتة. المؤشرات التي ينطلق منها حمود هي: إن حجم القطاع المصرفي يساوي أكثر من 3 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي، فيما نسبة التسليفات إلى الودائع تساوي 35%. في رأيه، تتعلق المشكلة بالربحية والعبء الاقتصادي. فلا أحد يستطيع إقناع الآخر بأن نسبة التسليفات إلى الودائع توفّر للمصارف ربحية كافية في ظل عبء فائض السيولة الناتج من بقاء كمية كبيرة من الودائع من دون توظيف، ولا أحد يمكنه أن ينكر عبء فائض السيولة على الاقتصاد. «الحل كان بالدين الكبير والاستمرار في التمويل عبر القطاع المصرفي، ما جعل امتصاص هذه السيولة أمراً ضرورياً وتحويلها إلى أرباح للقطاع. ولا يزال فائض السيولة يشكل عبئاً على الاقتصاد، ونحن ندفع هذه الكلفة»، يقول حموّد.
هذا التوصيف لم يُخرج حمّود من الخطاب التقليدي عن توسيع حجم الاقتصاد لكسر الحلقة المالية الجهنمية. ولم يثنه عن اللجوء إلى سردية رأس المال في مواجهة أزمة النموذج اللبناني، فقال إن الاقتصاد اللبناني يعمل بفاعلية متدنية، وإن مظاهر البحبوحة ناتجة من تحويلات المغتربين، وإن لبنان لا يعمل، بل اللبنانيين هم الذين يعملون، وبالتالي يكمن الحلّ عنده بإعادة إعمار البنية التحتية واستعمال فائض السيولة البالغ 30 مليار دولار للتمويل بدلاً من توظيفها في سندات الخزينة وشهادات الإيداع. تبنى حمّود خطاب المصرفيين بالكامل. خطاب سبق أن تبناه لبنان منذ مطلع التسعينيات إلى اليوم ونتائجه واضحة للعيان.
خطّة إعمار بـ16 مليار دولار
ضمن النقاش حول دور السياسة الإنتاجية في تفعيل الاقتصاد وزيادة معدلات النمو الاقتصادي، قال مُستشار رئيس الحكومة سعد الحريري لشؤون اللاجئين، نديم المنلا، إن تفعيل الاقتصاد يتم عبر خطة إعمار طموحة «ترتكز على تفعيل وتطوير البنى التحتية التي تنعكس إيجاباً على معدلات النمو وفرص العمل». وأعلن خلال الجلسة عن إنهاء مكتب الحريري خطة يُقدّر حجمها بـ16 مليار دولار تتوزع كالتالي: 5 مليارات دولار من أجل المواصلات (تأهيل مطار ومرافئ وغيرها)، 3 مليارات دولار لقطاع المياه، ملياران لقطاع الصرف الصحي، و4 مليارات للكهربا، 500 مليون لقطاع الاتصالات، مليار و400 مليون لقطاع النفايات، فيما تتوزع الأموال المُتبقية على قطاع التربية والصحة وتطوير المواقع السياحية. وأشار المنلا إلى أن هذه الخطة تأتي في ظل «واقع دولي يسمح لنا بتمويل هذا المشروع بقروض ميسرة بفائدة تتراوح بين 1% و1.5% على مدة 30 سنة مع فترة سماح 10 سنين»، لافتاً إلى أهمية الشراكة مع القطاع الخاص من أجل تطبيق هذه الخطة.
هذه المداخلة دفعت الوزير السابق روجيه ديب إلى استذكار مؤتمر باريس 1 وباريس 2 الذي لم تنفق أمواله على البنى التحتية، مشكّكا في مصداقية اعتماد هذا النموذج.
من جهته، اعتبر وزير الصناعة حسين الحاج حسن أن هذه السياسات (الخطة) من شأنها أن تُحقّق نموّاً اقتصادياً ظرفياً وأن «السياسات الإنتاجية هي التي تحقق النمو المُستدام»، مُشيراً إلى ضرورة «أن تتلاءم البنى التحتية مع الإنتاجية الاقتصادية ومع زيادة حجم الصادرات كي يتحقق النمو الاقتصادي».