شكّل توقيع الإتفاق بدخول «قطر للطاقة» شريكة مع «توتال إنيرجيز» الفرنسية و»إيني» الإيطالية أولى الخطوات الالزامية تعويضاً عن انسحاب «نوفاتيك» الروسية من «ثلاثي الكونسورتيوم النفطي». واللافت هو انّ العملية أنجزت قبل ترميم «ثلاثية الكونسورتيوم الرئاسي» نتيجة خلو سدة الرئاسة من شاغلها، وهو ما فتح الأفق على مجموعة من المفارقات التي تعزز المؤشرات السلبية حيال قدرة لبنان على إدارة هذا الملف واستثماره بالشروط الفضلى. فكيف ولماذا؟
توقّف أحد المراقبين – ممّن يتقنون الفكاهة بكل وجوهها السياسية وغير السياسية – عند الاحتفال الذي أقيم في السرايا الكبير بتوقيع «الملحقين التعديلين لاتفاقيتي الاستكشاف والإنتاج في البلوكين 4 و9، لمناسبة دخول شركة «قطر للطاقة» شريكة مع «توتال إنيرجيز» الفرنسية و»إيني» الإيطالية برعاية رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، فرحّب بأنّ الاحتفال أقيم يوم عطلة رسمية وتحديدا يوم أحد، ليعتبر وهو يواكبه في توقيته وشكله ومضمونه وكأنه يجري على ارض قطرية او فرنسية او ايطالية او في اي ارض حيادية او بقعة بعيدة عن لبنان.
وللتخفيف من وقع الصدمة على قراءته هذه، اعتبر انّ ما قصده لا يعبر عن نظرته الى كون السرايا ارضا اجنبية غير لبنانية، ولا ينم عن تفريط بوطنيته واحترامه للسلطة التنفيذية او الطعن بهوية المؤسسات الحكومية الرسمية وليس تشكيكا بالدور الوطني المنوط بها. ولكن الظروف التي تعيشها البلاد وما آلت اليه المناكفات السياسية والحكومية والآلية المعتمدة في إدارة شؤون البلاد والعباد قادَته الى هذه القراءة الموجِعة التي تثير الألم في قلب وعقل كل من يُراقب الأداء الرسمي المتحكّم، ليس بملف الطاقة والثروة الوطنية المطمورة في البحر منذ عقود من الزمن فحسب، وإنما للتعبير عن ألم لا يُقاس ان أجريَت المقارنة الطبيعية بين ما بلغته الانهيارات في الدولة قياساً على التطور الذي عرفته بلدان أخرى استنسخت التجارب اللبنانية في أكثر من قطاع. وأضاف: «كان لا بد لي من هذا التعبير الساخر وانا اتفرّج على ما جرى، خصوصاً عند التفكير بما حال دون استثمار هذه الثروة منذ عقود، وما انتهت إليه مفاوضات الترسيم». لافتاً الى انه لم يكشف سرا اذا اعتبر انّ الاتفاق الذي أعلن عنه من الناقورة في تشرين الماضي كان على طاولة البحث عينها منذ العام 2008 في المفاوضات غير المباشرة، برعاية الأمم المتحدة، والذي جمّد البحث فيه لأكثر من عقد من الزمن أمضاها اللبنانيون يتفرجون على ما حققه العدو الاسرائيلي في مجموعة الحقول النفطية الموازية التي يستثمرها في «المنطقة الاقتصادية الخالصة لفلسطين المحتلة» على شاطئ شرق المتوسط.
وإن قيسَت نظريته السلبية بنظر البعض بمعايير أخرى، فهو يرغب في أن يلفت الى معادلة أخرى تعتمد على طريقة مقاربة المؤشرات المالية والاقتصادية الواعدة الناجمة من الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية في الشكل الذي انتهى إليه. وما رافَقه من محاولات للاستثمار في ما جرى، وكأنه شكّل انتصاراً لفئة او حزب او تيار في وقت تستدعي الواقعية النظر الى ما تحقق بأبعاده الاقليمية والدولية بالتشديد على أهمية ان تكون هناك دولة قوية تمتلك قراراً واحداً موحّداً تجاه مصير مثل هذه الثروة، ووجهة نظر واحدة لِما هو مطلوب لاستثمارها وفق خطة اقتصادية ومالية وادارية شفافة تتجاوز الروتين التقليدي الذي أعاقَ التقدم المطلوب منذ سنوات.
ولا يخفي صاحب هذه النظرية قلقه على مستقبل التعاطي مع قطاع الطاقة في لبنان ان بقيت الآليات المعتمدة في إدارته، على انه إمارة لهذا الفريق او ذاك، كما بالنسبة الى بقية الثروات الوطنية التي ضاعت في ظل المناكفات المستمرة بين المراجع السلطوية. وخصوصاً تلك التي رافقت الأزمات الكبرى على مدى السنوات الست الاخيرة، وانعكست فشلاً في مواجهة الازمة النقدية والمالية التي واكَبت وصول جائحة «كورونا» الى لبنان، وما تسبّبت به «نكبة بيروت» الناجمة من تفجير المرفأ، وصولاً الى سير المفاوضات غير المباشرة برعاية اميركية وضيافة الامم المتحدة «اليونيفيل»، والتي فرضت على لبنان ان ينقاد الى التفاهم بجهد دولي واقليمي لتوحيد الموقف الرسمي مما كان مطروحاً من خطوط تحت البحر ومن فوقه. وهو ما عزّز الشكوك بما تخلى عنه لبنان من حقوق كفلتها له «الجغرافية المائية» وضَمنتها الاتفاقيات والمعاهدات الدولية في المنطقة الاقتصادية الخالصة، مُتذرّعين بنظرية «أنه لم يكن في الامكان افضل مما كان»، عدا عن المحاولات السخيفة والواهمة التي خاضها البعض لمبادلة ما كان مطروحاً من تفاهمات لفك العقوبات عن بعض الشخصيات.
وكأنّ ذلك لم يعد كافياً، فهل بقدرة مَن تابع التطورات الاخيرة في لبنان والمنطقة، ان يرى صعوبة في إحصاء ما فَوّته لبنان من فرص ذهبية كان عليه ان يتنبّه لها ويستشرفها، ليقرأها بعيون وعقول منفتحة، وقرارات استباقية مختلفة عن تلك التي اتخذها في ظل ما بَلغته أزمة الطاقة الدولية العالمية بعدما بلغت ذروتها بفعل الاجتياح الروسي لأوكرانيا مع اقتراب الذكرى السنوية الاولى له، والتي تصادف في 23 شباط المقبل معطوفة على حجم الأحلاف الكبرى التي نشأت والترددات الكارثية التي خلّفتها.
والى هذه القراءة، لكل المراحل التي بلغها ملف الترسيم وتداعياته والنتائج التي انتهى إليها، يصلح التوقّف أمام محطة ترميم «الكونسورتيوم النفطي» الثلاثي التي جرت أمس بانتقال حصة شركة «نوفاتيك» الروسية من ثنائي «توتال» و»ايني» الى شركة «قطر للطاقة» في وقت تعاني ثلاثية «الكونسورتيوم الرئاسي» عَطباً كبيراً تجلّى بخلو سدة الرئاسة من شاغلها منذ مطلع تشرين الثاني الماضي لتطرح أكثر من عملية استفهام حول مستقبل القطاع وطريقة التعاطي مع الجديد المحتمل بما يُثير جدلاً لا يقطعه سوى انتخاب الرئيس.
فالاحتفال الذي رعاه رئيس الحكومة امس لم يحظ برضى بعض الاطراف لا بل استفَزّ آخرين، وخصوصاً وزراء الطاقة السابقين من «التيار الوطني الحر» الذين حاول بعضهم نَفي الصفة التي جعلت من رئيس حكومة تصريف الأعمال راعياً للاتفاق في غياب رئيس الجمهورية الذي أصرّ على توقيع الوثائق الخاصة بتفاهم الترسيم قبل ان يغادر قصر بعبدا بأيام قليلة، مستعيداً الملف برمّته، على اعتبار ان من صلاحياته عقد المعاهدات والاتفاقات الدولية، من دون تجاهل حق الحكومة بالتصديق عليها بعد ان حرمت المنظومة السابقة مجلس النواب من تأدية دوره في التصديق على الاتفاق او على الأقل اطلاعه عليه قبل التوقيع وتبادل رسائل الضمانات.
وإن كانت حجّة البعض ان رئيس الحكومة كان قد نأى بنفسه عن سير المفاوضات غير المباشرة مع اسرائيل منذ ان تجدّد الحديث عنها في حزيران2021 من خلال المبادرة التي قادها الموفد الاميركي لشؤون المفاوضات عاموس هوكشتاين ويقطف ثمارها أمس الأول الأحد في شكل طبيعي، فهو اليوم يمثّل الحكومة التي آلت إليها صلاحيات الرئيس ولا يمكن التشكيك بدستورية الخطوة وقانونيتها.