Site icon IMLebanon

النفط لإطفاء الدين العام أم لتفاقمه؟

التزايد المقلق في الدين العام وعبئه على الاقتصاد اللبناني اصبح من أبرز الحجج التي يستعملها البعض للتأكيد على ضرورة الاسراع في إقرار مشروعَي المرسومَين العالقَين واطلاق عمليات التنقيب والانتاج لاستخراج البترول والغاز اللازمَين لاطفاء الدين وتخطي سائر الصعوبات التي نواجهها، خصوصا ان الدين تجاوز 65 مليار دولار، اي 140 في المئة من مجموع الناتج المحلي، ومن المقدر ان يقفز الى 100 مليار في غضون سنوات، تضاف إليها الفوائد.

ومن البديهي أن مشكلة الدين تضع لبنان في مأزق يزداد حراجة يوما بعد يوم، كما انه من المسلمات ان كل تدفق مالي جديد، مصدره النفط أو غيره، يساعد في مواجهة هذا التحدي الكبير. ومن المسلمات أيضا ان من مصلحة لبنان، وبغض النظر عن موضوع الدين، أن يقوم بما يلزم للتأكد من وجود البترول والغاز تحت أراضيه برا وبحرا، وان يباشر باستثمار هذه الثروةً الموعودة بأعلى درجات الجهوزية والمهنية وخصوصا المسؤولية.

في انتظار ذلك، تستدعي المسؤولية المطلوبة، تجنب الالتباسات وخلط الأمور بعضها مع البعض الآخر، أي توضيح معطيات مشكلة الدين من جهة، ومشكلة النفط من جهة ثانية، خصوصا ان لكل من هاتين المشكلتين أسبابها ووسائل معالجتها الخاصة. وإلا فالخطر كل الخطر أن نعالج داء الدين بلقاح ملوث بالجراثيم التي ظهرت عوارضها في «السياسة» النفطية وتداعياتها الكارثية، جراثيم تسمى الارتجال وانعدام الشفافية والسمسرات وتغليب بعض المصالح الخاصة على المصلحة العامة، وذلك حتى قبل التأكد من وجود النفط والغاز.

أما الدين، فلم يعد سرا على أحد أن أهم أسبابه تكمن في الفجوة المزمنة بين واردات الدولة ونفقاتها نتيجة لهدر المال العام والفساد وسوء إدارة بعض المؤسسات العامة، وفي طليعتها شركة كهرباء لبنان التي تسبب عجزها في ما يقارب ثلث الدين العام. ناهيك عن تحمل أصحاب الدخل المحدود للقسم الأكبر من عائدات ضريبة الدخل، وشتى أنواع فضائح النصب والسرقة في معالجة موضوع النفايات أو الانترنت أو…

لذلك كله، فان مجرد الحس السليم يقول بأنه بدلا من المخادعة والتلاعب ببريق مليارات النفط الموعودة بحجة إطفاء الدين، لا بد من تحكيم الحد الأدنى من المنطق والنزاهة الفكرية للتذكير بان حل مشكلة الدين تبدأ بالتعاطي مع الأسباب الحقيقية لهذا الدين!

لا بل إن الأخطر من ذلك هو أن الأرقام الاعتباطية التي يتلفظ بها بعض المسؤولين حول الاحتياطي المحتمل من الثروة الموعودة والمليارات الضخمة من الدولارات التي ستدرها تصب، شئنا ام أبَينا، في خانة تلاشي الجهود اللازمة لترشيد الإنفاق وتحسين الدخل، ومن ثمة في تقليص العجز وتفاقم الدين. وافضل مثال على ذلك تضخيم التقديرات الخاصة باحتياطي الغاز المفترض وجوده في المنطقة الاقتصادية الخالصة، والتي يعلن احيانا بعض المسؤولين عن هذا القطاع انه يبلغ 93 تريليون قدم مكعب، اي ثلاثة أضعاف الرقم الذي يعتبر اقرب الى الواقع وفق «داتا» المسوحات الزلزالية. وهذا الوضع هو اشبه ما يكون ببيع جلد الدب قبل اصطياده، او حتى قبل التأكد من وجود الدب!

عامل آخر يسهم في بلبلة الافكار حول العلاقة بين موضوعي الدين والنفط هو الاعتبار الشائع ان التدفقات المالية التي قد يولدها النفط هي «دخل» بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، شأنها في ذلك شأن اي دخل ناجم عن العمل او عن نشاط اقتصادي آخر متجدد. مما يقود الى سوء تفاهم على غاية من الخطورة، لانه يتجاهل كون النفط مادة اولية ناضبة تزول باستعمالها مرة واحدة، وانه من الاصول (assets) التي تعود ملكيتها لكل الاجيال: الحاضرة منها والمقبلة خاصة… مما يعني ان الدعوة للاسراع الى استخراج الثروة الموعودة بغية استعمال قيمة النفط او الغاز لاطفاء الدين العام هي هرطقة اقتصادية وتشكل تحريضا لاختلاس ثروة وطنية على حساب اولادنا واحفادنا. وهذا لا يختلف عن الادعاء بانه ممكن بيع قسم من اراضي البلاد او مياهها لتسديد دين يشكل، جزئيا ان لم نقل كليا، حصيلة فساد وسوء ادارة لا يجوز لا اقتصاديا ولا اخلاقيا تجيير عبئهما وتبعاتها للاجيال الصاعدة.

هذه الحقائق هي بالذات ما اوحى بضرورة انشاء صناديق للأجيال القادمة او صناديق سيادة في العديد من البلدان الاخرى، وهي نفسها التي ربما تسمح باستعمال جزء من عائدات البترول والغاز لتسديد أقل ما يمكن من الدين المتراكم، على ان يخصص القسم الاعظم منها لتغذية صندوق سيادي نص عليه القانون 132/2010.

اما معالجة اسباب تعثر سياسة البترول فلا علاقة لها على الاطلاق باسباب ووسائل التعاطي بمشكلة الدين. والا فان موضوع الدين يصبح، كموضوع النزاع على الحدود البحرية مع اسرائيل، ذريعة للضغوط الرامية لتمرير اسوأ ما يمكن من الشروط لاستثمار البترول والغاز، والتهرب من مجابهة اسباب الدين. وعندها تكون النتيجة ليس الاسهام في اطفاء الدين بل تفاقمه.

هذا الوضع وهذا الخطر هما تماما ما حذر منه عام 1975 خوان الفونسو بيريز، وزير البترول الفنزويلي آنذاك وأحد مؤسسي منظمة اوبيك مع عبد الشيخ الله الطريقي، بقوله المأثور: «البترول هو براز الشيطان، انه يجلب الفوضى والفساد والدين. هذا الدين الذي سنرزح تحت عبئه سنوات وسنوات…».

ومن سوء حظ فنزويلا انه صح فيها أكثر مما حذر منه خوان بيريز، إذ إنها اليوم مثقلة بدين يناهز 116 مليار دولار يتوجب تسديد خمسها خلال العامَين المقبلَين. وهذا اقرب ما يكون الى المستحيل في ظل اوضاع اقتصادية تسير من السيئ الى الأسوأ بسبب الفوضى السياسية والتضخم المالي والارتفاع المروع في الاجرام، وتفشي الفساد الذي وضع هذا البلد في المرتبة 168 من اصل 178 دولة على سلم الفساد في العالم في العام 2015 (مقابل المرتبة 128 للبنان!)، وهو ما ادى الى ما نراه اليوم على شاشة التلفزة من تظاهرات الاحتجاج ونهب المواد الغذائية في متاجر وحوانيت كاراكاس وغيرها من المدن الفنزويلية.

اما في لبنان، فالأمل كل الأمل، الا يصح فينا ايضا قول خوان الفونسو بيريز. أمل ما زال من الممكن ان يتحقق اذا كف البعض عن تضخيم الاحتياطي المرجو من البترول والغاز، واذا كف البعض الآخر عن التحريض غير المسؤول على الاسراع في إقرار مراسيم كارثية تؤمن حتما السلب والسمسرات لمصلحة حفنة من اللبنانيين، على حساب المصلحة الوطنية العامة. هذه كلها امور بديهية تتطلب معالجتها، كما اشار الى ذلك مؤخرا دولة الرئيس تمام سلام، اعلى درجات الجدية والعمل العلمي الهادئ والتحلي بروح المسؤولية.