لسنوات انهالت الأسئلة على التيار الوطنيّ الحر، من الأقربين والأبعدين، عن سبب تمسكه بوزارة الطاقة، طالما أن كثيرين يسهون عن أحوال الاستشفاء والتعليم والزراعة والصناعة ومصادرة مدخراتهم، ولا يسألون سوى عن الكهرباء. وفي كل مرة، كان التيار يلتف حول الجواب بدل أن يقول صراحة إن الأمر يتعلق بالطاقة لا الكهرباء.
بعد أسابيع قليلة على تسلم جبران باسيل وزارة الطاقة عام 2011، اكتشف أن تأمين الكهرباء والمياه دونه منظومة أخطبوطية تتداخل فيها الطبقات والمستويات السياسية والإعلامية والمنتفعون، والأهم أن هناك ثروة هائلة آثر المتعاقبون على السلطة في لبنان عدم الالتفات إليها، وواصلوا الالتزام بالتوصية الدولية بتجاهلها بالكامل حتى حين كان بلدهم يغرق في المديونية.
شغل باسيل نفسه بالغاز عن زجل مقدمات نشرات الأخبار وفعل في «الطاقة» كل ما يمكن أن تفعله في نطاق صلاحياتها، قبل أن يصل الملف إلى مجلس الوزراء فيفتعل رئيس مجلس الوزراء أزمة ليستقيل وحكومته قبل توقيع مراسيم النفط. النفط والغاز الموجودان في باطن البحر كانا سيبقيان مدفونين لو لم تقرر شخصية سياسية واحدة من بين كل من تعاقبوا على السياسة في لبنان، معارضة وموالاة، أن تضع استخراجهما نصب عينيها. مع وصول العماد ميشال عون إلى بعبدا حرص على أن يبدأ عمله بإقرار مراسيم النفط الممنوعة من الداخل والخارج، لمعرفته أن ما من شيء آخر بوسعه منع الارتطام الاقتصادي الكبير.
ميشال عون، ومن خلفه جبران باسيل، مشيا خلف الكذاب في ملف النفط حتى باب الدار، من دار إلى دار. وفي وقت كان المنظرون والمنظرات يملأون الشاشات، كان يمكن للعدو الإسرائيلي يسرح ويمرح تحت المياه الإقليمية اللبنانية من دون حسيب أو رقيب، لولا الحق الذي كرسته وزارة الطاقة في عهد باسيل والمراسيم في عهد عون. تماماً كما كان يمكن للتفاوض الذي استمر عشر سنوات أن يستمر مئة عام أخرى على وقع أناشيد الكتائب والقوات وبولا يعقوبيان وملحم خلف، لولا القوة التي كرستها مسيّرات المقاومة وصواريخها.
لطالما كان الرئيس عون يقول لمن يلتقيهم إن الولايات المتحدة والإسرائيليّ لا يفهمان غير منطق القوة، وأن الحق وحده لا يكفي، ولا بدّ أن نكون أصحاب حق وأقوياء لنحقق طموحاتنا. وفي دردشة خاصة مع باسيل، قال عون ليُسمع كل الحاضرين: «لم يدفع بلدنا كل ما دفعه من أثمان لأخطاء الآخرين على أرضه إلا بسبب تلك المقولة – اللعنة بأن قوة لبنان في ضعفه؛ وما يحصل اليوم هو فرصتنا التاريخية لتصحيحها والقول إن قوة لبنان في قوته». والقوة ليست فقط في المقاومة العسكرية التي يفيها عون التقدير اللازم، إنما أيضاً في المقاومة السياسية والدبلوماسية: في أن تقول لوزير الخارجية الأميركي لا مدوّية في وجه طلباته، وفي أن تقول لصفقة القرن لا ثانية وثالثة إلى ما لا نهاية رغم ضغط الأقربين قبل الأبعدين، وفي أن تقول للمفاوض الأميركي إن «قانا مقابل كاريش» هو البداية فقط، وتهزأ من ابتسامته الهازئة لمعرفتك أنك في موقع قوة. في وقت كان التحريض على تفاهم حزب الله والتيار يبلغ ذروته حتى داخل بعض أروقة التيار، كانت قيادة التيار تسطر بالتنسيق المباشر والدقيق مع حزب الله أبرز إنجاز سيسجل للرئيس ميشال عون في عهده.
من يشككون بنصر تموز ولا يعتبرونه نصراً أساساً، تماماً كمن لا يعتبرون نصر سوريا نصراً وهو النصر بذاته، سيشككون في النصر الأخير. وهو بطبيعة الحال نصر يستفيد منه جميع اللبنانيين لكنه ليس نصراً لجميع اللبنانيين؛ هو نصر لعون وباسيل وحزب الله، لكنه ليس نصراً لجيش الدفاع الإعلامي عن هيبة إسرائيل، ولمن أخّر توقيع مراسيم النفط نحو عامين، ومن شكّك بوجود النفط، ومن سخّف القضية، ومن استفاق قبل بضعة أسابيع لقطع الطريق على تسجيل إنجاز باسم العهد. والانتصار لا يتعلق بالترسيم إنما بالتنقيب؛ وبكسر استراتيجية أميركية طويلة عريضة اسمها محاصرة لبنان؛ استراتيجية أميركية – خليجية عنوانها: حيث تكون ممانعة لا يمكن أن يكون هناك نفط أو ازدهار أو كهرباء أو عيش كريم.
في الاقتصاد، هذا ملف حمله جبران باسيل من بدايته إلى نهايته من دون شراكة أو اهتمام أو متابعة من أحد، وما على المزايدين سوى إخبار الرأي العام ماذا يتضمن «قانون الموارد البترولية في المياه البحرية»، وماذا تعني المراسيم التطبيقية، وأين كانوا حين عينت «هيئة إدارة قطاع البترول» وأجريت «المسوحات الجيوفيزيائية» وأطلقت دورات التراخيص ووقعت العقود وبدأ الحفر الاستشفائي وأقر قانون تعزيز الشفافية في قطاع البترول واقترح قانون الصندوق السيادي اللبناني الذي «نيّمه» نائب القوات جورج عدوان في جوارير لجنته النيابية. أما في السياسة، فهو الملف الذي استهل به الرئيس عون عهده وختمه به، وكان يمكن للعهد أن يكون مختلفاً للبنانيين لو لم يسمحوا للضغائن والأحقاد أن تتحكم بهم، فضحّوا بمصلحتهم ومصلحة أبنائهم على مذبح النكايات. أما حزب الله فدحض ببضع مسيّرات عشر سنوات من العمل الأميركي – الأوروبي – الخليجيّ – اللبناني الممنهج لإقناع الرأي العام أن المقاومة أصل البلاء الاقتصادي وسبب الأزمات، وقال في المقابل إن الازدهار المنشود يمر بالنهوض الاقتصادي، والنهوض يمر بقوة لبنان، وقوة لبنان من قوة حزب الله. وإذا كان من أمل بمستقبل أفضل، فإن هذا الأمل لا يأتي من مقدمات نشرات الأخبار وتحليلات «عيدان التين» ودبكة جعجع وزوجته، ومزايدات بولا وملحم ومارك وزمرتهم، إنما بعناد وصبر وبصيرة والتزام من انتزعوا حق لبنان وسيضعونه بمتناول اللبنانيين للاستفادة منه إذا ما توافرت الإرادة السياسية اللازمة للمضي قدماً في التنقيب، رغم كل ما سيفتعله الداخل والخارج للحؤول دون ذلك.