كلّما تأخر لبنان في الاستثمار في قطاع قطاع النفط، صارت حظوظه في الاستفادة من ثروته تحتَ الماء أقل. الظروف الخارجية والداخلية تجعَل من هذا القطاع أقرب إلى ورقة لوتو من دون رصيد
عندما يُصبِح النفط قريباً من نهاية عصرِه، فذلِك يعني أن آمال لبنان المبنية على هذا القطاع أقرب إلى الوهم. هذه حقيقة. قد يبدو القول صادِماً لكثير من الحالمين، أو لمَن يظُنّ أن الدرب سالك للاستفادة من الثروة المدفونة تحتَ البحر. فالظروف الداخلية والخارجية التي تُحاصِر الحلم الموعود، من الآن حتّى عشر سنوات، تسمح بالاستنتاج أنه ليسَ قريب المنال ولن يكون مصباح علاء الدين. فهذه الثروة التي تأخّر لبنان عليها أعواماً كثيرة، قد لا تؤمّن له أي دخل بترولي، وخاصة أن العوامل والمتغيرات – إذا ما سارت وفقَ ما يُتوقع لها – تجعل من مخزونه النفطي (إنْ وُجِد) ورقة لوتو رابحة… لكن من دون رصيد.
قبلَ سرد عددٍ من العوائق الداخلية التي تدفع إلى لجم الآمال المُعلقة على هذا القطاع، لا بدّ من الإشارة الى الكثير من الدراسات والتقارير التي تتحدّث عن التطورات الدولية والإقليمية التي تفرض على الدول (وخاصة في ما يتصل بالنفط والغاز الطبيعي) ضرورة اللجوء إلى خيارات أخرى في ميدان الطاقة، مثل الطاقة الشمسية، وتوجيه المزيد من الغاز نحو الصناعات، قبل التصدير والاستهلاك المحلي. فمقولة نهاية عصر النفط ليسَت مجرّد توقعات. خبراء الشركات العملاقة، كتوتال الفرنسية – على سبيل المثال – استخدموا هذا العنوان في إطار حديثهم (وفقَ وكالة «بلومبيرغ») عن انتقال العالم تدريجياً الى مصادر للطاقة أقل تلويثاً، مشيرين إلى أن «الطلب على الطاقة الكهربائية سيزداد بحلول عام 2050، وأن الشركة تنوي الاستثمار في مجال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وابتكار البطاريات وتطوير شبكة محطات شحن السيارات، بحيث إن الكلفة ستكون أقل بكثير من الاستثمار في قطاع البترول». وهذا الأمر يعني أن الطلب على النفط والغاز سيُصبِح أقل، وأن العرض عليهما سيكون أكبر، بسبب عدم وجود سوق كافية للتصدير اليها. التقارير نفسها تؤكّد أن البلدان التي ليسَ فيها نفط وغاز ستذهب الى الاستثمار في مجال الطاقة الشمسية، بديلاً من استيراد الغاز والنفط، وأن البلدان التي فيها مخزون هائل من هذه الثروة ستواجه صعوبات في تصريف إنتاجها، رغم كل إمكانياتها المتطورة في هذا المجال. وإلى جانب عامل الطاقة المتجددة والبديلة، أَتت جائحة كورونا لتزيد الطين بلّة. فالتداعيات الاقتصادية السلبية لكارثة كورونا أثّرت على مجمل النشاط الاقتصادي العالمي، وخاصة في سوق النفط، وقلّلت من مستوى الطلب عليه، حيث جرى الاتفاق بينَ الدول النفطية على خفض سقف الإنتاج. فكيف سيكون وضع لبنان الذي دخلَ نادي الدول النفطية، بالاسم فقط، وهو الحلقة الأضعف بين دول المنطقة من حيث الإمكانيات؟
هذا الواقع الجديد دفع بعددٍ من المعنيين بقطاع النفط في لبنان، إلى التشاؤم. لماذا؟ يقول هؤلاء إن هذا القطاع «محاصر بالعديد من العوائق التي تجعَل بقاء هذه الثروة تحتَ المياه العميقة أفضل من استخراجها»، منها «عوائق خارجية، متصلة بواقع قطاع الطاقة الأحفورية ومستقبلها، وأخرى داخلية تتعلّق بوضع البلد غير المستقّر سياسياً وأمنياً واقتصادياً». ويؤكّد هؤلاء أن «تراجع الطلب على الغاز والنفط، ينعكس بدوره على الاستكشاف والإنتاج». والشركات الكبرى، إذا ما استمرت في عملها، فإنها تفضلّ العمل في بلدان «أكثر استقراراً، أو على الأقل تأكد وجود كميات من النفط والغاز فيها». فالمفاضلة بين لبنان والعراق، بالنسبة إلى الشركات، سيصبّ حتماً لصالح الأخير، لأن «أي شركة تعمل في العراق ولديها قاعدة استكشاف، سترى أن من مصلحتها حفر آبار إضافية في مساحات قريبة من تلكَ التي ظهرت فيها كميات من الغاز والنفط»، خاصة أن «لبنان لم يثبت حتى الآن وجود كميات كافية فيه». هذا إضافة إلى أن «البنى التحتية الموجودة في بلدان أخرى، ليست متوافرة في لبنان، مثل المنشآت والأنابيب والمعامل».
ويُشير هؤلاء الى نقطة «بالغة الأهمية» كما يصفونها، وهي أن «الشركات العملاقة التي كانت تعرّف عن نفسها بأنها شركات غاز ونفط، صارت اليوم تقدّم نفسها على أنها شركات للطاقة المتجددة»، وهذا يعني أنها «ستبدأ تباعاً بالاستثمار أكثر في هذه الطاقة، وأقل في المياه العميقة».
بالنسبة إلى التجربة في لبنان، فإن هذا الأمر سيكون كارثياً على القطاع، لعدة أسباب، منها سياسيّ وآخر تقني:
أولاً، لا بدّ من الاعتراف بأن لبنان تأخر كثيراً في الاستفادة من هذه الثروة. وإذا ما تأخر أكثر، فستصُبِح بضاعته غير قابلة للتصريف، نظراً إلى التحولات السريعة في هذا المجال.
ثانياً، حتى الآن لم يتأكد وجود غاز ونفط تحت البحر. فتقارير شركة «توتال»، بحسب ما يشدّد المعنيون، «أشارت الى أن النتائج في البئر الأولى التي حُفرت في البلوك 4، كانت مخيّبة للآمال». ذلِك لا يعني أن الحديث عن وجود للنفط هو وهم، لكن تصنيفنا في قائمة الدول النفطية هو «صفر» إلى أن تُصبِح النتائج واعدة.
تراجع الطلب على الغاز والنفط، ينعكس سلباً على الاستكشاف والإنتاج
ثالثاً، الظروف القاهرة (ككورونا والتوترات السياسية) التي يُمكن أن تدفع بالشركات العاملة في لبنان إلى تأجيل عمليات الاستشكاف أو تجميده لفترة. فبسبب هذه الظروف، أجّلت «إكسون موبيل» أنشطتها لمدة عام في قبرص، كما أن شركتي «إيني» و«توتال» تخططان لإعادة النظر في أنشطتهما في الرقعة 6 من المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص.
رابعاً، إضافة إلى جائحة كورونا وعدم الاستقرار، تتحدث مصادر معنية عن عوامل داخلية في لبنان من شأنها أن تؤثر سلباً، وتدفع الشركات التي بدأت عملها إلى مراجعة حساباتها. من بين هذه العوامل «غياب الحكومة، وحصول حوادث أمنية. فنحن اليوم من دون حكومة، وهناك جدل حول صلاحيات حكومة تصريف الأعمال في اتخاذ قرارات معينة، فمع من ستتحاور الشركات في حال وجود مشكلة ما، ومن هو الطرف الذي سيبُت ذلك»؟ وترى هذه المصادر أن «لبنان لا يُمكنه أن يمنع هذه الشركات من تأجيل عملها، خاصة أن منشآتها معرضة للخطر، مثل ما حصل في انفجار المرفأ، حيث تضررت قاعدة إمداد توتال بشكل كبير».
أما خامساً والأهم، وهو السبب الأكثر ضغطاً، فيتمثل في منتدى شرق المتوسط، الذي لا يُمكن أن يكون لبنان جزءاً منه، بسبب وجود «إسرائيل» فيه. وهذا المنتدى يعزّز التحالفات الإقليميّة بين الدول الشرق أوسطيّة بعدَ أن وافقت سبع دول (مصر وفلسطين والأردن وإيطاليا واليونان وقبرص وإسرائيل) على إرساء أسسه التي تهدف إلى إنشاء سوق إقليميّة للغاز وتتشارك الأعباء المادية للبنى التحتيّة، بما يؤدّي إلى خفض الكلفة. وجود لبنان خارج هذا المنتدى، يمثل نقطة ضعف «لأن الجالسين حول طاولة واحدة هم دول نفطية بامتياز وتملك بنى تحتية»، وبالتالي فإن «الاتفاق في ما بينها يساعدها في احتكار الأسواق والاتفاق مع الشاري الذي سيفضّل عقد اتفاقات معها، بسبب إمكانياتها المشتركة بدلاً من توقيع اتفاقات مع لبنان الذي يُعدّ بلداً صغيراً مقارنة مع الدول الأخرى». ولذلك، فإن عدم التأكد حتى الآن من وجود كميات تجارية من النفط والغاز، وفي ظل افتقاد البنى التحتية، وعدم اللجوء إلى عقد تحالفات تنافس هذا المنتدى، كلها عوامل ستجعل لبنان تحتَ الضغط الكبير. فهل تُدرك الدولة اللبنانية حجم المخاطر وكثرة العوائق؟ وهل لديها خطة بديلة أم ستترك هذا القطاع «والرب راعيه»؟