IMLebanon

النفط مرّ من هنا

يخطئ من يضع هبوط أسعار النفط في إطار التذبذب العادي في الأسواق، انحدار يليه ارتفاع، ثم ارتفاع يتبعه هبوط.

وإذا نظر العالم كله إلى الانخفاض الاستثنائي في أسعار النفط كحركة تقليدية و طبيعية في الأسواق، ينبغي على العرب أن يذهبوا إلى أبعد من ذلك، ويتبحّروا في الأسباب العميقة لهذه الظاهرة. فما يجري هو تحوّل في النظام العالمي للطاقة، الأمر الذي يعني العرب بالدرجة الأولى، ويرسم ملامح مستقبلهم السياسي والاقتصادي.

الصورة المختصرة للتطوّرات هي كما يلي: انحسار الطلب على النفط بسبب تراجع النموّ في معظم اقتصاديات العالم، وأيضا بسبب ترشيد استعمال الطاقة في البلدان المتقدّمة وسواها. يقابل ذلك، وهذا الأهمّ، وفرة العرض بسبب تنوّع مصادر الطاقة ودخول العديد من البلدان إلى نادي الدول المنتجة لها.

إن التحوّل الجذري في مصادر انتاج الطاقة، النوعية والجغرافية، يوحي بأن صورة أخرى ترتسم في الأفق، وأن المستقبل لا يشبه الماضي على الإطلاق. أين العرب في ذلك المستقبل؟

يتراجع الاعتماد على البترول شيئا فشيئا، وتتناقص حصته في السوق لمصلحة أنواع أخرى من الطاقة، خصوصا الغاز. في الأربعين سنة المنصرمة تراجعت حصّة النفط في الأسواق العالمية من 53% إلى 36%، فيما ارتفعت حصّة الغاز من 19% إلى 26%. وكان لافتاً، في العقود الأخيرة، النموّ السريع لمصادر الطاقة الجديدة، كالطاقة الكهرومائية والشمسية وتلك التي تولّدها الرياح.

حصة البلدان العربية المصدّرة للنفط تراجعت على نحو ملموس، وهي مقبلة حتما على مزيد من التراجع، من دون أن «تشفع» فيها احتياطات النفط والغاز الخيالية التي تختزنها الرمال العربية.

أهمّ منافس للعرب والروس، وسواهم، هي الولايات المتحدة الأميركية، التي يتزايد انتاجها النفطي، لاسيما الصخري، على نحو مذهل، ولا غرابة في أن تصبح يوما أكبر مصدّر للنفط فوق الكرة الأرضية. لقد زاد انتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة بنسبة 30% بين سنتي 2011 و2014، ونما انتاج الغاز الأميركي سنة 2012 بنسبة 5%، مقابل نموّ عالمي يقلّ عن 2%. انتاج النفط الصخري الأميركي تضاعف أقلّ قليلا من ثلاث مرات في ست سنوات، ليبلغ ثمانية ملايين برميل.

تقنية انتاج الغاز الصخري ستنتقل إلى بلدان أخرى، مثل الصين، وغيرها، فيتناقص زبائن النفط العربي ـ والروسي والإيراني ـ سنة بعد سنة.

يشعر الأميركيون بالغبطة، لأنهم يأملون بالوصول في وقت قريب إلى تحقيق حلمهم الذهبي وهو الاستقلال النفطي. لقد شعروا بالمهانة منذ انفجار أزمة القرم الأخيرة لأن روسيا كانت تملك بيدها ورقة ضاغطة، وهي تموين أوروبا بالغاز، فيما الأميركيون عاجزون عن نجدة حلفائهم في القارة العجوز. ولكن لسان حال الأميركيين يقول «انتظروا، فاستقلالنا النفطي قادم لا محالة». الكتاب الأميركيون يقولون إن بلادهم بأمس الحاجة إلى «التحرر من ابتزاز بوتين وملالي إيران وشيوخ العرب».

البلدان العربية التي تمتلك 50% من احتياطي النفط العالمي و30% من احتياطي الغاز تعجز عن الحفاظ على حصّتها في السوق العالمية، بسبب تنوّع المصادر المتجدّدة وكثرة المنافسين الذين دخلوا ويدخلون النادي الدولي لإنتاج الطاقة. وحتى يحافظ العرب على حصّة معقولة في السوق فهم يحتاجون إلى أموال واستثمارات ضخمة لا يستطيعون تأمينها. وفقا لتقديرات أميركية، تحتاج الدول العربية المنتجة للنفط إلى 800 مليار دولار في السنوات الخمس المقبلة لتحسين وضعيتها في السوق. وإذ يصعب على هذه الدول تأمين الرساميل الضخمة المطلوبة من أموالها الخاصة، وتتردّد في الاستدانة لهذا الغرض، فإن المستثمرين الدوليين يشيحون بنظرهم عن الاستثمار في المنطقة العربية، بسبب ارتفاع المخاطر السياسية وتخلف القوانين والفساد وسوء الإدارة.

لن تنضب آبار البترول العربي أو تجف منابعه، ولكن أهمّيته الاقتصادية تتجه إلى الانحدار والتقلص في العقود الآتية. ورغم أن الحاجة إلى البترول العربي لن تنعدم تماما، فإن فقدان موقعه الدولي الوشيك يسمح بإجراء محاسبة تحتاج إلى حيّز أوسع للإحاطة بكل أبعادها: هل استفاد العرب كما يجب من المرحلة التي أمسكوا خلالها بالثروة النفطية؟

عندما فتحنا أعيننا على هذا العالم، في زمن الطفرة الوطنية والصعود القومي، كان يتردّد في الشارع العربي شعار «بترول العرب للعرب». ولكن العرب، بأكثريتهم الساحقة، لم يشعروا يوما أن البترول بترولهم، أو أنهم شركاء، ولو بمقدار بسيط، في الثروة الهائلة التي تفجّرت في منطقتهم.

المنطقة العربية ما زالت تشكو من تدن ٍمخزٍ في مختلف مؤشرات ومعايير التنمية البشرية، وتعاني من عيوب هيكلية في اقتصاداتها. إنها تتميّز بأعلى نسبة ولادات في العالم، وأضعف نموّ في الدخل الفردي على الإطلاق، وهي مصنفة بين أكثر مناطق العالم فقرا. نصيب الفرد من الناتج المحلي في العالم العربي لا يزيد عن 3500 دولار، وفيه 11 مليون شخص يعيشون فقرا مدقعا، أي أن دخلهم يقلّ عن دولار واحد في اليوم. حتى في بلد نفطي مثل العراق يعتبر 19% من السكان فقراء، وتصل هذه النسبة في لبنان إلى 29%.

لا شك في أن الباحثين والأكاديميين سوف يقضون عقودا من الزمن وهم يبحثون في تأثير الثروة النفطية على البلدان العربية، النفطية منها وغير النفطية. ما يهمّ الآن أن تستعمل الاحتياطات المالية العربية، وما يرد من عائدات النفط في ما تبقى من الزمن، لإرساء اقتصاد عربي جديد يمكن العرب من البقاء في زمن ما بعد النفط.