بعد التعتيم والسرية، وبعد تزوير القانون البترولي 132/2017 وطرد الدولة من الانشطة البترولية، والادعاء باتباع «النموذج النروجي» وغير ذلك من الانحرافات، أصبحت الارقام الطريقة المفضلة لدى المسؤولين عن هذا القطاع لتضليل الرأي العام وصرف انتباهه عما يجري لتحقيق مصالح خاصة على حساب سياسة نفط وطنية تستهدف المصلحة العامة.
آخر مثال على ذلك، ما قاله وزير الطاقة في 14 كانون الاول الجاري تعليقاً على موافقة مجلس الوزراء، في صباح التاريخ نفسه، على «العرض» الوحيد الذي قدمته مجموعة «توتال» الفرنسية و«ايني» الايطالية و«نوفاتيك» الروسية للتنقيب عن البترول والغاز وانتاجهما في كل من الرقعتين 4 في الوسط و9 في الجنوب، في المنطقة الاقتصادية الخالصة. ومما جاء في كلام الوزير ان حصة الدولة من الارباح الصافية ستتراوح بين 55% و63% في الرقعة رقم 4 وبين 65% و71% في الرقعة رقم 9.
كلام غريب يطرح علامات استفهام كبيرة حول النقاط الجوهرية التالية:
1 ــ تصاريح وارقام اعتباطية
ان اعطاء اي رقم كان عن معدل حصة الدولة (Government Take) من الارباح طوال فترة العقد يستلزم طبعا الأخذ في الاعتبار تطور عدة متغيرات كالاسعار والكميات المباعة والكلف والنوعية ونسبة الخصم المطبق لحساب معدل العائد الداخلي للشركة (Internal Rate of Return) الخ… كما يستلزم، خصوصاً، تطبيق عناصر ما يسمى عامل الدخل (Revenue Factor) الذي تزداد بموجبه حصة الدولة وفق زيادة نسبة مجموع الدخل على مجموع الارباح.
ومن الخصائص غير الطبيعية التي تم تبنيها في المرسوم 43/2017 ان عناصر عامل الدخل هذا تحدد عبر المزايدة مع كل شركة على حدة.
هذا يعني، بتعبير آخر، ان التلفظ برقم معين عن نسبة حصة الدولة ليس له أي معنى الا على ضوء السيناريوهات المتخذة كأساس لذلك، بما في ذلك طبعا عناصر عامل الدخل التي يتم الاتفاق عليها مع كل شركة وحول كل رقعة. فكيف يمكن للوزير، وهذه هي الحال، ان يطلق أرقاما حول الحصة المرتقبة للدولة، طالما انه لم يتم اي اتفاق نهائي حتى الآن مع ائتلاف الشركات الثلاث المذكورة؟
وعند حصول اي اتفاق من هذا النوع لا بد بالطبع من نشره كي يتم تحليله، ويطلع عليه المواطن اللبناني، قبل اطلاق تصاريح لا تخدم سوى التشويش، بخاصة ان الارقام التي جازف الوزير بها حول حصة الدولة من الارباح تتضارب ورقم الـ 66,3% (على اساس ضريبة دخل 20%) الذي خلص اليه سيناريو آخر قدم في ورشة عمل عُقدت في شباط الماضي، في المجلس النيابي، شارك فيها ممثلون عن وزارة الطاقة وهيئة البترول. فما هي المستجدات التي حصلت والتي يمكن ان تفسر التباين بين ما قيل في شباط وما قاله الوزير في 14 الجاري؟
2 ــ ادنى حصة للدولة في العالم
خلال السنوات التي تلي انطلاق الانتاج وقبل وضع آلية عامل الدخل موضع التنفيذ، ستقتصر حصة الدولة على المكونات والاحكام المنصوص عليها في القانون البترولي وفي المرسوم 43/2017 كما في قانون الاحكام الضربيية، وهي بالنسبة للغاز: اتاوة 4% فقط لا غير من قيمة الانتاج، وحصة 30% من صافي الارباح بعد تنزيل كلف انتاج حدد سقفها سنويا بمعدل 65% من الدخل، وأخيراً ضريبة 20% على أرباح الشركة العاملة. هذه العناصر تؤدي الى تقاسم الارباح الصافية بنسب تقارب 53% للشريك الاجنبي و47% للدولة، اي اسوأ من كل ما هو معروف في العالم، لا بل نسبة أتعس بكثير مما كانت تحصل عليه في القرن الماضي البلدان المنتجة في ظل الامتيازات القديمة، اي اتاوة 12,50% من قيمة الانتاج وضريبة 50% على الارباح. هذا الوضع مرشح ليستمر في لبنان خلال السنوات الاولى للانتاج، اي قبل مرحلة العمل بعامل الدخل المفترض مبدئياً ان يؤدي الى زيادة حصة الدولة بشكل تصاعدي.
الخطورة تكمن في خلو
القانون من تحديد عناصر حصة الدولة من الارباح غير العادية وتركه للمزايدة مع الشركات
3 ــ سرية تحديد آلية عامل الدخل
تعود اهمية عامل الدخل لكونه يشكل الحد الفاصل بين السنوات الاولى التي تلي بداية الانتاج والتي تمتاز بحجم استرداد نفقات التنقيب وتطوير الحقول المكتشفة، من جهة، والمراحل الاخرى حيث ترتفع ارباح المشروع تدريجياً، من جهة ثانية.
ففي اسرائيل مثلا، وهي المثال الاقرب الينا من حيث الجغرافيا والقدرات النفطية، نجد ان حصة الدولة تبلغ خلال السنوات الاولى اتاوة 12,5O% من قيمة الانتاج، تضاف اليها ضريبة دخل عادية بنسبة 25% على الارباح. بعد ذلك، وعندما يبلغ عامل الدخل 1,5، اي عندما تكون الشركة قد استردت مرة ونصف المرة كامل نفقات التنقيب والتطوير، تتقاضى الدولة 20% اضافية من الارباح، وذلك حتى يبلغ عامل الدخل 2,3 حيث تتقاضى الدولة ضريبة اضافية تصاعدية تصل الى 45,52% من الارباح.
على الصعيد العملي، تشير آخر تقديرات البنك المركزي الاسرائيلي الى ان مجموع ما تترقبه اسرائيل من استثمار حقلي تامار وليفيتان الكبيرين وثلاثة حقول اخرى اصغر منهما، يناهز 130 ــــ 140 مليار دولار خلال الفترة 2014 ــــ 2040، منها حوالي 60 مليار دولار ناجمة عن الاتاوة وضريبة الدخل العادية. اما الباقي، اي ما لا يقل عن 70 ـــــ 80 مليار دولار، فمصدره حصة الدولة الاضافية الناجمة عن الارباح غير العادية (Windfall Profits) الناجمة عن عامل الدخل.
خطورة الانحراف الذي حصل في لبنان تكمن في خلو القانون والمرسوم 43/2017، خلافاً لما حصل في اسرائيل وفي أماكن اخرى في العالم، من تحديد عناصر وآلية اجتذاب القسم الذي يعود للدولة من الارباح غير العادية، الأمر الذي ترك للمزايدة مع الشركات. ومما يزيد الامر سوءا في لبنان انعدام الشفافية وضعف الادارة واستشراء الفساد، مما يفتح المجال واسعاً للتفاهمات وراء الباب بين الشركات المعنية وبعض موظفي وزارة الطاقة ومن يقف وراءهم.
4 ــ طرد الدولة من الانشطة البترولية
اخيرا لا آخرا يبقى ان الخطيئة الاصلية في مسيرة البترول والغاز في لبنان كانت في تزوير القانون البترولي عبر المادة 5 من المرسوم 43/2017، التي نصت على انه لن يكون للدولة مشاركة في دورة التراخيص الاولى. تغييب الدولة هذا ادى الى ملء الفراغ الذي تركته بشركات وهمية او مارقة تستعمل كغطاء لبعض المصالح الخاصة.
بعد هذا التزوير الذي لا مثيل له في اي بلد من بلدان العالم الاكثر فساداً، لم يعد اي معنى للكلام عن نظام تقاسم الانتاج او لممارسة الدولة لصلاحياتها ومسؤولياتها، او التغني بالشفافية والقوانين الجديدة لمكافحة الفساد. هذا ما فعله النائب جوزيف معلوف، عندما انتهز فرصة توقف البث من باريس خلال مشاركتي في برنامج «كلام الناس» في 14 الجاري. ولا شك ان النائب المذكور يعرف ان النائب محمد قباني، رئيس اللجنة البرلمانية للطاقة، كان قد وصف السرية التي ما زالت تمتاز بها مسيرة البترول والغاز بأنها مخجلة. كما انه يعلم ولا شك ان قانون مكافحة الاثراء غير المشروع لم يتمكن منذ العام 1998 حتى من مكافحة الغبار الذي تكدس عليه! المهم ليس ما يقوله هذا النائب او ذاك الوزير. المهم هو الاسراع في اقرار مشروع شركة نفط وطنية تأخذ مكانها وتمثل الدولة واللبنانيين، في اطار نظام تقاسم انتاج يؤمن تكافؤ المصالح بين الدولة وواحدة او اكثر من الشركات البترولية العالمية. والاهم من ذلك كله هو التعاطي مع قضية البترول والغاز بأعلى درجة من الموضوعية والمسؤولية، وبأقصى ما يستحقه اللبنانيون من احترام لكرامتهم وعقولهم ومصالحهم.