غزّة ليست الجبهة الوحيدة في المنطقة، على رغم من قساوة النزاع فيها، وعلى رغم من ضراوة الهجمات الاسرائيلية التي تخَطّت الأشهر الثلاثة مع ارتفاع هائل في اعداد الضحايا الذي بلغ عتبة الـ ٢٥٠٠٠، فضلاً عن الجرحى الذي بلغ عددهم عتبة المئة ألف، وحجم الدمار غير المسبوق وخطط الترنسفير والابادة والتهجير والمجاعة. كلّ ذلك أمر مهول، ولكن لم تكن غزّة الحرب الأولى في المنطقة، ولم تكن بالتالي سبب الحروب فيها، وإنما نتيجة الحروب والتفاهمات والسياسات والنزاعات والتنافس الدولي في المنطقة.
سوريا ولبنان أيضاً جبهة مفتوحة، فما عدا الحرب في سوريا التي دخلت عامها الثالث عشر، وما نتج منها أيضاً من ضحايا ودمار وتهجير داخلي وخارجي، معطوفة على أزمة نزوح في الاردن ولبنان وصلت الى أوروبا، وادلب لا زالت تحت سيطرة الجماعات المسلحة والشمال الشرقي تحت السيطرة الكردية والقواعد الأميركية الموجودة وكذلك الوجود الروسي والايراني والتركي بوضعيات شرعية متفاوتة، وكل الجوانب المعقدة من المشهد الضبابي ولبنان حرب استنزاف واشغال وتوازن رعب وتثبيت معادلات، وحركة موفدين قادمين ومرَسّمين بريّين وبحريّين وسياسيّين، الى لوحة معقدة فيها المقاومة صاحبة الكلمة الفصل والدولة المتفرجة إن حضرت أصلاً وهي الغائبة عن المؤسسات البديهية الإدارية قبل أن تحضر في ميدان القتال والاشتباك وساحات المعارك التي بدأت منذ اغتيال العاروري في الضاحية، بدأت تتغيّر فيها وتيرة الأحداث لتُنبىء بتصعيد محتمل، بات على قاب قوسين وأدنى.
البحر الأحمر، لولب الأحداث وقبلَتها، هناك سرّ الملاحة الدولية والأسعار والتجارة العالمية، باب الاستقرار وعدمه على الصعيد الأمني العسكري والاقتصادي.
الحوثيون يزيدون من قبضة إمساكهم بمفاتيح اللعبة وزمام المبادرة، وبرز الدخول الإيراني المباشر في الساعات الماضية إلى المياه الإقليمية العراقية لإيقاف سفينة تحمل العلم التنزاني.
في ظل هذه الأحداث كان لا بدّ لأسعار النفط من أن ترتفع بمقدار كبير جداً الى ما يفوق الـ١٠٠ دولار للبرميل، الا أنها لا زالت في معدل ٧٧ $. يعود السبب في ذلك إلى القرار الأميركي برفع معدل الإنتاج واكتشاف عدد كبير من الحقول والسماح لها بالإنتاج وغَضّ النظر عن قضايا البيئة التي كانت تتمسك بها الإدارات الأميركية للحد من نشاط الشركات، الا أنّ الحاجة الى المصادر البديلة عن نفط الخليج والتحرر من قبضة «أوبك» ولا سيما «أوبك بلاس» للحدّ من مفعول التعاون والتنسيق السعودي ـ الروسي تحديداً، أدى بالرئيس الأميركي الى السماح للشركات الأميركية والطلب منها رفع سقف إنتاجها إلى الطاقة القصوى. ومن أبرز الاكتشافات الجديدة وأكثرها تأثيرًا حقل «البرميان» الذي يُقال عنه انه الأكبر في العالم، ويقال أيضًا أنه أكبر من حقل «الغور» أكبر الحقول السعودية، مما يسمح للشركات الأميركية ببدء التصدير إلى جانب الاكتفاء الداخلي، أضِف إليه إنتاج البرازيل التي لا زالت خارج منظمة «أوبك» حتى الآن على رغم من اعتزامها الانضمام إليها في خلال السنة الجارية، بالإضافة إلى اكتشافات «غويانا الحديثة» وحصة إيران من الأسواق، ما ساهمَ في انخفاض أسعار النفط.
وقد عزمت السعودية على خفض أسعار النفط الخام الخاصة بها بمعدّل دولارين للبرميل، وأدى ذلك إلى هبوط سعر البرنت، ما يشير إلى صعوبات سعودية في تسويق إنتاجها وسط اهتمام بالغ ببقائها في صدارة المشهد والدور الإقليمي، الا أن هناك احتمالًا واحدًا يجعل أسعار النفط تتخطى الـ١٠٠ أو ١٢٠ دولاراً، وهو الحرب المباشرة بين إيران وأميركا ستكون؛ إن وقعت؛ حربًا عند بحر العرب أو مضيق هرمز.
بالعودة إلى «اويل برايس» الموقع النفطي العالمي، كانت هناك إشارة إلى أن الحوثيين لم يستهدفوا ناقلات النفط، بدليل أنه من أصل ٧٦ ناقلة نفط مرّت منذ بدء الحرب على غزة هناك ناقلتان فقط اضطرّتا الى تغيير مسارهما، الاّ أن أحداث البحر الأحمر في حال انزلقت وتطوّرت وطاولت ناقلات النفط التي لا زالت محيّدة حتى الآن، فستخدم حتماً سوق النفط الأميركي بحيث أنه سيصل إلى أوروبا بأسعار مقبولة مقارنة بالنفط العالمي إذا ما اضطرّ للمرور عبر رأس الرجاء الصالح بدلاً من باب المندب، ومن هنا نفهم سبب غَضّ النظر وعدم التحرك الأميركي السريع والحاسم، على رغم من الإعلان الشكلي، عن عملية «حارس الازدهار» التي انتهت قبل أن تبدأ.
وإضافة إلى الخطر الحقيقي على منظمة أوبك والخطر الداخلي هذه المرة، فالمنظمة التي أُسِست عام ١٩٦٠ على يَد ٥ دول، هي: السعودية، العراق، الكويت، إيران، فنزويلا، قبل انضمام دول أخرى. تقوم على أساس أنّ الدول المنتجة هي التي تحدد أسعار النفط بدلاً من الشركات. ولكن بعد انسحاب قطر وإندونيسيا، أصبح عدد الدول فيها ١٣. فأوبك منظمة سياسية اقتصادية قوية وفاعلة. ولكنّ انغولا التي انضمّت إليها عام ٢٠٠٧، عادت وانسحبت منها بسبب عدم الاتفاق على القرارات، خصوصا بالنسبة الى ما يتعلق بخفض الإنتاج، وكانت بانسحابها هذا تريد إيصال رسالة إلى أوبك بأنّ لديها قدرة إنتاجية فائضة. ولكن بعد تعيين السعودية مستشارين أُبقِي على حصة انغولا القليلة، ما أدى إلى اعتراضها على هذا القرار في ظل السماح للإمارات بزيادة الإنتاج. الّا أن السبب الحقيقي كان المزاجية السياسية لأنغولا في ظل وصول جواو لورانزو إلى سدة الرئاسة، وكذلك علاقاته المستجدة مع أميركا التي قدّمت له استثمارات كبيرة، آخرها ٩٠٠ مليون دولار في الطاقة الشمسية.
هل ستلحق أميركا بكل الأعضاء الصغار في المنظمة للحد من سيطرة «أوبك» على سوق النفط العالمي وذلك لتأمين سوق للنفط الأميركي بمقدار أكبر وأسهل في انتظار بناء تحالف جديد بديل من «أوبك» يتشكّل من دول أميركا الشمالية والجنوبية ؟ ومن هنا نفهم التقارب الأميركي ـ الفنزويلي، والسعودي ـ الإيراني، والتباعد الأميركي ـ السعودي، والتحالف السعودي ـ الروسي الذي يبدو في ظاهره سياسيًا، إلا أنه اقتصادي نفطي بالدرجة الأولى.