بين إتفاق دول الأوبك، وإنخفاض مخزونات النفط الأميركية، وإرتفاع الطلب الصيني على النفط، عادت أسعار النفط إلى الإرتفاع من جديد. هذه العوامل خفّضت من تخمة المعروض، لكنها تبقى غير كافية لرفع أسعار النفط في الأمد المتوسط والبعيد.
تعرّضت أسعار النفط في القسم الأول من العام ٢٠١٦ إلى تخمة في المعروض تجاوزت الثلاثة ملايين برميل يوميًا، مما أدّى إلى تدنّي الأسعار بشكل كبير.
لكن الحريق الذي شبّ في إحدى المدن النفطية الكندية والذي أطاح بإنتاج مليون برميل يوميًا أثار شهية دول الأوبك التي سارعت إلى بدء مفاوضات فيما بينها بهدف تقليص الإنتاج وبالتالي رفع أسعار النفط. هذه الدول رأت في الحريق الكندي فرصة لتضحية بسيطة بهدف إعادة أسعار النفط إلى مستوى مقبول يسمح لها بسدّ العجز في موازناتها.
وبالفعل، توصّلت دول الأوبك إضافة إلى روسيا، إلى إتفاق ينصّ على تقليص الإنتاج اليومي لهذه الدول بقيمة ١.٢ مليون برميل يوميا على أن يبدأ مفعول هذا الإتفاق في أول العام ٢٠١٧ لمدّة ستة أشهر على أن تعاود مناقشة التمديد بهذا الإتفاق في أيار العام ٢٠١٧. وبهذا كانت التوقعات أن ترتفع الأسعار من جديد إلى ما فوق عتبة الستين دولارا أميركيا للبرميل الواحد.
المُشكلة التي واجهتها هذه الدول في تطبيق هذا الإتفاق تتمحور حول إستعادة كندا لقدرتها الإنتاجية ما قبل الحريق وتطور العلاقات الأميركية – الإيرانية بعد وصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة في الولايات المُتحدة الأميركية.
إيران وسلاح النفط
السياسية الأميركية الجديدة تجاه إيران دفعت هذه الأخيرة إلى إستخدام النفط في إستراتيجيتها الدفاعية تجاه الإتهامات الأميركية للنظام الإيراني بخرق الإتفاق النووي من خلال التجارب التي تقوم بها إيران على صواريخ بالستية.
الردّ الأميركي على هذه التجارب كان فرض عقوبات إقتصادية جديدة على طهران وذلك في اليوم الذي تلى التجربة الإيرانية. لكن الردّ الإيراني على الردّ الأميركي لم يتأخر حيث أعلن مدير الشركة النفطية الوطنية الإيرانية عن نية إيران رفع إنتاجها اليومي إلى ٤ ملايين برميل وذلك في حلول منتصف شهر أذار المُقبل.
هذا الإعلان يأتي بخلاف الإلتزام الإيراني تجاه إتفاق دول الأوبك بسقف إنتاج بـ ٣.٧٩٧ مليون برميل يوميًا أي أن الزيادة تفوق الـ ٢٠٠ ألف برميل يوميًا.
هذا الأمر يُظهر أن إيران بدأت تستخدم المعادلة الإقتصادية في حساباتها الجيوسياسية على غرار الحسابات الجيوسياسية الأميركية. فإمتلاك إيران لقدرة إنتاج إضافية ستسمح لها بإستخدامها في السياسية من منطلق أن التوازن الحالي في سوق النفط هو توازن هش وبالتالي فإن أي زيادة في الإنتاج ستسمح لإيران بتحقيق عدّة أهداف منها:
أولًا – ضرب الإنتاج الأميركي من النفط الصخري بحكم أن زيادة الإنتاج ستزيد من العرض وبالتالي ستُخفّض الأسعار إلى درجة تنتفي فيها الجدوى الإقتصادية لشركات النفط الصخري الأميركية من إنتاج النفط الصخري.
ثانيا – ضرب المالية العامّة للمملكة العربية السعودية من خلال زيادة الفائض في السوق وبالتالي، خفض أسعار النفط ومعها المداخيل السعودية التي تعتمد بشكل شبه أحادي على النفط والصناعة النفطية خصوصا إذا وقعت المملكة وروسيا في لعبة إيران وقامت بالردّ بالمثل عبر زيادة إنتاجها إلى ما قبل الإتفاق.
ثالثًا – إعطاء الدبلوماسية الإيرانية هامش تحرّك في المفاوضات مع المجتمع الدولي خصوصا مع الولايات المُتحدة الأميركية. وقد أثبت وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المُتحدة الأميركية صوابية الحسابات الإيرانية بعدما أظهر توجهاته حيال النظام الإيراني وفرض عقوبات جديدة على إيران نتيجة تجاربها على الصواريخ البالستية المتوسطة والبعيدة المدى.
رابعًا – تشكيل ضغط ناعم (Soft) على روسيا من خلال الضغط على ماليتها العامّة وذلك بهدف دفع هذه الأخيرة إلى الوقوف إلى جانب إيران في المواجهة مع المُجتمع الدولي وخصوصًا مع الولايات المُتحدة الأميركية.
إستحالة إرتفاع أسعار النفط
السعر الطبيعي أي السعر الذي يتناسب وحجم التضخم الأميركي (النفط مُقوّم بالدولار الأميركي) هو ٧٠ دولارا أميركيا للبرميل الواحد. أيضًا من المعروف أن الفائض في العرض في سوق النفط كان يفوق الثلاثة ملايين برميل يوميًا في شهر تشرين الأول ٢٠١٦، لذا أتى الإتفاق على تقليص الإنتاج بقيمة ١.٢ مليون برميل إضافة إلى التقليص الآتي من الحريق الذي شبّ في المنشآت النفطية الكندية والذي بلغ مليون برميل يوميًا ليضغط على أسعار النفط وبالتالي رفعها إلى ٥٥ دولارا أميركيا.
بالطبع، أعادت كندا قسما كبيرا من منشآتها التي تضرّرت جرّاء الحريق، إلى العمل (في حدود الـ ٨٠٠ ألف برميل يوميًا) وبالتالي، كان قرار دول الأوبك وروسيا بتقليص الإنتاج بـ ١.٢ مليون برميل يوميًا فقط تخوّفًا من عودة إنتاج النفط الصخري في الولايات المُتّحدة الأميركية إلى العمل مع إرتفاع هامش الربح.
جدير بالذكر إن كلفة إنتاج النفط الصخري إنخفضت من ٧٠ إلى ٤٠ دولارا أميركيا للبرميل الواحد وذلك بفضل التطوّر التكنولوجي الذي حققته الشركات النفطية الأميركية وأي إرتفاع في أسعار النفط سيزيد من شهية الشركات الأميركية وبالتالي زيادة عدد منصات النفط الصخري ومعها المعروض.
عند توقيع الإتفاق بين دول الأوبك، كانت المخاوف بألا يتمّ إحترام الإتفاق من قبل هذه الدول، لكن هذه المخاوف كانت تتجه نحو روسيا والسعودية بالتحديد. وأحدًا لم يتوقع هذا الخرق من قبل إيران لأن القطاع النفطي الإيراني يُعاني من نقص كبير في الإستثمارات نتيجة العقوبات التي كانت مفروضة على إيران من قبل المُجتمع الدوّلي. لكن الواضح أن إيران ومنذ رفع العقوبات عمدت إلى الإستثمار في هذا القطاع وذلك لحسابات جيوسياسية.
إقتصاديا، وبعد الإعلان الإيراني عن زيادة الإنتاج، تذهب مُعظم السيناريوهات المُتوقعة (أو الأكثر إحتمالًا) في إتجاه زيادة العرض في السوق من قبل دول الأوبك وخصوصًا من قبل المملكة العربية السعودية التي ستُحاول إستعادة حصتها في الأسواق بعدما تخلّت لإيران عن ٣٠٠ ألف برميل يوميًا. أمّا روسيا التي تخلّت عن ٣٠٠ ألف برميل جرّاء الإتفاق، فستُحاول إستردادها من خلال رفع الإنتاج من جديد.
كل هذا سيؤدّي إلى خفض سعر النفط بإقلّه ٨ دولارات للبرميل الواحد وهذا يعني أن واردات كل من المملكة العربية السعودية وروسيا ستقل بقيمة ٧٠ مليون دولار يوميًا تقريبًا، وواردات إيران بقيمة ٢٠ مليون دولار يوميًا. وسيعود الضغط على الموازانات في البلدان المُنتجة للنفط وبخاصة أن مُعظمها أقّر موازناته على أساس سعر نفط عالٍ مما يعني أن العجز سيكون تلقائيًا.
أضف إلى ذلك زيادة طلب الإقتصاد الصيني على الغاز الذي يُشكّل ضغطًا طبيعيًا على أسعار النفط (Substitute) حيث إرتفع الإستيراد الصيني من الغاز إلى مستويات تاريخية مما يعني أن الطلب على الغاز قلّل وسيُقلّل حكمًا من الطلب على النفط. أضف إلى ذلك إستراتيجية الصين تجاه الفحم التي حوّلت أفريقيا إلى بقعة إستثمارية للتنقيب على الفحم وتأمين أمنها الحراري.
في ظلّ هذا العراك النفطي، يخرج لبنان مُستفيدًا عبر إنخفاض الدعم المالي الفعلّي لمؤسسة كهرباء لبنان المتوقع أن يكون في حدود الـ ٢١٠٠ مليار ليرة لبنانية بحسب مشروع موازنة العام ٢٠١٧.