قبل سنوات طويلة، استخدمت السعودية سلاح النفط في حربها ضد الدول التي «لا تملك النفط». واليوم يُقال انها عادت لاستخدام السلاح ذاته في حرب موجهة ضد الدول التي «تملك النفط». قبل عقود جففت المنابع للتأثير في جهات المصب. قطعت الإمدادات البترولية للتعبير عن خيبة الأمل في الحلفاء الغربيين الذين يستهلكون النفط العربي بشراهة من غير أن يقدموا مقابلاً استراتيجياً لذلك. واليوم أغرقت السوق النفطية بحصة «أوبك» الثابتة للتعبير عن غضبها من النفطيين الذين يتآمرون ضدها وضد الاستقرار في محيطها الإقليمي.
الحرب الأولى نعرفها جميعاً ونؤكدها جميعاً، أما الحرب الثانية فنشاهدها ولا نستطيع تأكيد حقيقتها أو رفضها!
في هذه المقالة سأفترض صدقية الحد الثاني من هذه الثنائية، وأقارن ما بين الوضعين النفطيين المتعاكسين، وأرصد الخسائر والأرباح لكل منهما.
في السبعينات، قرر الملك فيصل وضع مستقبل الاقتصاد السعودي في دائرة المجهول، وقرر قطع البترول عن أميركا بسبب وقوفها مع إسرائيل ضد الحقوق العربية التي لم تكن كلها وطنية خالصة بالكامل، بل كان يشوب الكثير منها الأماني والآمال «القومجية». الملك فيصل كان يعلم أن قرار وقف البترول عن أميركا سيضر بالاقتصاد السعودي، وكان يعلم في الوقت نفسه أن دعم الجانب المصري والسوري سيزيد من تطلعاتهما القومية ويضر بالمشروع السعودي القائم على تعويم «العروبية» في المحيط الإسلامي من أجل الحد من النفوذ السوري والمصري والعراقي على بقية الدول العربية. كانت السعودية تعرف أنها ستخسر سياسياً واقتصادياً، لكنها فعلت ما فعلت لأنها لا تستطيع إلا أن تفعل ذلك. لم تكن الخيارات مفتوحة للسياسيين السعوديين، ولم تكن الأحداث المتلاحقة حينها لتسمح بالمناورة وبناء المواقف على المصالح القُطرية.
خرجت السعودية من الأزمة بمكاسب شعبية وخسائر اقتصادية وتراجع سياسي عربي ودولي. المصريون والسوريون لم يحتفوا بقرار قطع البترول كما يجب في حساباتهم الداخلية، وضاع دور السعودية المهم في أدبيات وسلوك حكوماتهم في السنوات التي تلت ذلك، والأميركيون أدركوا أنه لا بد من الخروج من نفق الاعتماد الكبير على النفط السعودي، وصار كل المرشحين للرئاسة الأميركية في السنوات الـ30 التالية يعدون جماهيرهم بالتخلي المستقبلي التدريجي عن نفط «أشرار» الشرق الأوسط كما يسمونهم في حال انتخابهم، وكان آخرهم – ولن يكون الأخير – باراك أوباما في حملته الانتخابية في العام 2008. وفوق هذا كله رصدوا بلايين الدولارات لأبحاث الطاقة البديلة للتخلص من الارتهان السياسي الجزئي لدول الخليج العربي، وها نحن نتعامى والعالم يرى المؤشرات المتلاحقة لانتهاء عصر النفط.
اليوم يعود السعوديون للاستراتيجية نفسها، ولكن في الاتجاه العكسي. يضمنون تدفق النفط لدول العالم على رغم التراجع الدراماتيكي لأسعاره في الأسواق العالمية. يعرفون أن الاحتفاظ بحصة «أوبك» كما هي في السوق النفطية لن يُسهم في تعافي سعر البرميل في المستقبل القريب، لكنهم على رغم ذلك مستمرون في المخاطرة الاقتصادية، وكل ذلك من أجل إخضاع إيران وروسيا للرغبة الدولية. السعودية يهمها أن تتوقف إيران عن دعم بشار الأسد، وتتوقف أحلامها التوسعية، وتسحب مندوبيها «الثورجية» من المناطق العربية. وأميركا تسعى إلى تركيع بوتين باستخدام السلاح نفسه الذي بنى منه قوته في السنوات القليلة الماضية.
سيتأثر الاقتصاد السعودي، وستعاني الشركات البترولية الأميركية، خصوصاً شركات النفط الصخري، لكن ذلك سيظل مقبولاً في الحسابات السياسية ما دام سيغير من وجه العلاقات الدولية إلى الأبد. ستدفع السعودية فاتورة ذلك، وستضطر إلى اللجوء إلى الاحتياط الاستراتيجي لتغطية العجز المتوقع في ميزان الإيرادات والمصاريف، وستعمل الإدارة الأميركية على تعويض الخسائر الموقتة للشركات النفطية وضمان الوظائف لموظفيها.
أميركا دولة عظمى والسعودية دولة إقليمية كبيرة، لكن السؤال الكبير سيبقى: ماذا لو عادت روسيا وإيران بعد سنوات لاستخدام السلاح نفسه ضد الحليفين السعودي والأميركي؟ ماذا لو أصبح النفط غداً سلعة دائمة في التجاذبات السياسية؟ أميركا ستنجو، وستستمر رسائل الاعتماد على البترول تتردد في المحافل الانتخابية، ستظل أميركا هي أميركا؟
لكن هل ستنجو السعودية؟