صحيح انّ المشهد ما يزال معقداً ولونه سوداوي، لكن ثمة مؤشرات ووقائع عدة تعطي الانطباع بأن الافق ليس مقفلاً لا بل على العكس واعداً. ومن هذه المؤشرات البدء باستكشاف الثروة النفطية في البلوك رقم 9، والذي تشير التقديرات الغربية ولا سيما الاميركية الى وجود كمية كبيرة من الغاز.
والمعاني الايجابية في هذا المجال لا تنحصر فقط بالمردود المالي الذي يحتاج له الاقتصاد اللبناني بشكل مُلح، بل خصوصاً بالمردود السياسي. ذلك انّ شركات الاستكشاف ومن ثم التنقيب والاستخراج سيعني مصالح دولية كبيرة وهو ما سيترجم باستقرار في المنطقة. وبالتالي، فإنّ الاستقرار الامني بحاجة لاستقرار سياسي على مستوى السلطة في لبنان.
والمؤشّر الثاني يتعلق بالاتفاق الشفهي ما بين واشنطن وطهران. صحيح انّ هذا الاتفاق طابعه مرحلي ومحدد وهو ليس نهائيا لأسباب عدة ابرزها يتعلق بالحسابات الداخلية لكلا البلدين الا انه يعطي الانطباع بأن مستوى التوتر المرتفع الذي ساد خلال السنوات الماضية، وتحديداً بعد اقدام الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب على الغاء الاتفاق النووي وهو ما وضع احتمال حصول مواجهة عسكرية مباشرة مع ايران مسألة واردة، كل هذا جرى وضعه على الرف لينتقل معه الصراع مع ايران الى مستويات ادنى واقل خطورة كمثل اعادة ترتيب ساحات النفوذ في المنطقة وهذا ما عبّر عنه قائد الجيش الايراني اللواء عبد الرحيم موسوي حين قال ان وضعاً امنياً جديداً نشأ في المنطقة يوفر فرصاً لإيران ويفرض في الوقت نفسه تهديدات كثيرة وثقيلة لأن العالم في حال اضطراب وينتظر انشاء نظام جديد. واعتبر موسوي انه تم تشكيل نموذج فعال للدفاع الاقليمي وتعزيز الردع ضد الاعداء. وفي معرض تعداده للتهديدات ضد ايران اعتبر ان احداها مرتبط ببعض الحكومات في المنطقة عبر انشاء آليات مناهضة للامن. الواضح ان قائد الجيش الايراني يلمح الى ضرورة ترجمة المكاسب العسكرية التي حققتها في الساحات العربية الخمس الى مواقع قوية داخل السلطة من خلال نظام سياسي جديد وانشاء معادلة حكم تخضع لها. لكن لا بد من الاخذ بعين الاعتبار، بأن الاتفاق الشفهي بين واشنطن وايران من الواضح انه نفّذ ليمرر المرحلة الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية الاميركية. فإذا فاز بايدن بولاية ثانية، فلا بد من ان نتوقع التحضير لإنجاز مفاوضات كاملة حول اتفاق نووي ثابت ونهائي، خصوصاً ان بايدن سيكون متحرراً من اي ضغط داخلي.
اما في حال وصول المرشح الجمهوري، فإن الاوراق قد يُعاد خلطها من جديد وهذا الاحتمال قد يصبح وارداً على ضوء تجربة دونالد ترامب في العام 2016. واستفاد بايدن انتخابياً من الاتفاق الشفهي من خلال البند المتعلق بإعادة المحتجزين الاميركيين لدى ايران، وايضاً امن حماية لنفسه من خلال البند المتعلق بوقف الهجمات الايرانية ضد القوات اللاميركية في الشرق الاوسط.
لكن هذا لم يمنع تصاعد الحملات من الجمهوريين ضد الاتفاق والذي وصفوه بالرشوة وبالاتفاق الساذج واستذكر هؤلاء ما حصل ايضا ايام باراك اوباما عام 2015، وبالتوازي مع انجاز الاتفاق النووي حيث جرى تسليم 400 مليون دولار نقداً لإيران لحظة مغادرة الطائرة السويسرية مطار طهران وعلى متنها اميركي جرى الافراج عنه.
واستطراداً، فإن الاتفاق الشفهي الاميركي – الايراني سيمنح المنطقة فترة هدنة ثابتة ومضمونة لأكثر من سنة ونصف السنة.
والمؤشر الثالث يتعلق بالدفع الايجابي الجاري اعطاؤه للعلاقات السعودية – الايرانية رغم عدم نجاح فترة الاختبار المعطاة ان في اليمن او على مستوى حقل الدرة. لكن زيارة وزير الخارجية الايراني الى السعودية والشروع في فتح السفارات وقبول ولي العهد السعودي دعوة الرئيس الايراني لزيارة طهران، كل ذلك يوحي بأن لا عودة الى الوراء ولو ان التقدم يبدو بطيئاً وثقيلاً وصعباً.
وكان معبراً ان يتعمّد الايرانيون إظهار حفاوة بالغة بلقاء وزير خارجيتهم بولي العهد السعودي، مع الاشارة بأن طهران هي التي كشفت أولاً عن اللقاء قبل السعوديين رغم حصول اللقاء في السعودية، ما يعني انّ ايران تريد اظهار ايجابية اعلامية رغم ان الامور على ارض الواقع تبدو جامدة لا بل غامضة.
والمقصود هنا ان السعودية تريد خطوات عملية وتنفيذية في اطار الملف اليمني وضمان امنها من خلال حدودها الجنوبية. واستطرادا فهي لا تكتفي بالكلام الايجابي بل بخطوات في الجوهر والذي لم تقدم عليه ايران بعد حتى الآن. وصحيح ان زيارة عبد اللهيان تمخض عنها تشكيل لجان للمتابعة، لكن هذا الاسلوب لا يوحي بإنجازات كبيرة قريبا، خصوصا وسط عودة الحماوة في مواقف الحوثيين ومحيط حزب الله.
رغم ذلك فإن استئناف العلاقات وفتح السفارات يبقى بداية جيدة ولو انها غير كافية، ولكن لا عودة الى الوراء اقله في المدى المنظور. وهذه المؤشرات الثلاث تعزز الانطباع بأن الافق مفتوح وليس مقفلاً، لكن الوضع الصعب الذي يحاصر الازمة اللبنانية له حسابات اخرى مرتبطة بتنظيم خارطة النفوذ السياسي في المنطقة.
فتحت سقف الاتفاق الاميركي – الايراني الشفهي والتبريد السعودي – الايراني تتصاعد الضغوط المتبادلة ومسرحية عرض العضلات لإعادة رسم الخارطة السياسية.
وتركز واشنطن ضغوطها على نقطتين: الاولى في بحر الخليج والثانية في سوريا وربما لاعتبارها انهما مفتاحان اساسيان لكامل الخارطة المطلوب اعادة رسمها. فعلى مستوى الخليج وصلت مؤخرا تعزيزا شملت طائرات عسكرية نوعية وقطع بحرية وحوالي ثلاثة آلاف جندي. وعملت القيادة الوسطى في الجيش الاميركي على تعزيز حضورها في مضيق هرمز ومحيطه لمنع ايران من فرض حضورها على هذا الممر المائي المهم من خلال الاستيلاء على حاملات النفط. وهذا ما يفتح باب التفاوض مع ايران لتأمين هذه الممرات لكن بعد انتزاع ورقة ايران العسكرية في البحر. الواضح ان ثمة اثمان ستنالها ايران ولكن قد لا تكون بالحجم الذي تطمح له.
وفي سوريا وفي الوقت الذي تسعى فيه القوات الاميركية الامساك بمنطقة البوكمال عند الحدود السورية – العراقية، سجلت عودة قوية لداعش في البادية السورية مع تقديرات اشارت الى ان قوة داعش في سوريا والعراق ما تزال تضم آلاف العناصر. لكن الملاحظة الاهم هي بعودة الاحتجاجات في سوريا بسبب الاوضاع الاقتصادية والمعيشية المزرية بدءاً من السويداء في الجنوب وصولا الى الساحل السوري شمالاً. ولكن اللافت ان هذه الاحتجاجات شهدت انتقادات سياسية يخشى ان تتطور مستقبلاً. مع العلم بأن السلطة السورية كانت رفعت سقف مواقفها بوجه الاميركيين، كما فعل وزير الخارجية السوري خلال زيارته الاخيرة الى طهران. وجاء ذلك في اطار التحالف السوري – الايراني.
وفي المقابل سُجل اختراق ايراني للاكراد وهو الفصيل الذي يشكل الداعم الاساسي للجيش الاميركي خصوصا على مستوى المشاة والقوى البرية.
وفي هذا الاطار ادرج المراقبون اغتيال مسؤولة كردية مكلفة بالتواصل مع الايرانيين بصاروخ اطلق من طائرة مسيرة تركية في ريف حلب، اثناء عودتها من اجتماع مع الايرانيين.
الرسالة بدت واضحة خصوصا لناحية الدور الجديد الجاري ايلاءه لتركيا. واذا اردنا اسقاط كل المشهد على الازمة اللبنانية، فهذا يعني ان التسوية الحاصلة حتماً تحتاج لإنضاج الطبخة اكثر على المستويين السوري والخليجي. وانه بانتظار هذا التوقيت لا بد من المحافظة على الحد الادنى من الاستقرار الامني الموجود، خصوصا وان انجاز الطبخة اللبنانية سيحتاج لاحقا لمفاوضات اميركية مع حزب الله، وانهيارات اقتصادية ومعيشية تشكل الاخراج المطلوب للانتقال الى مرحلة الحلول والاستقرار.