IMLebanon

لا قيمة لقانون الإثراء غير المشروع بلا هيئة مكافحة الفساد وتطبيقه رهن استقلالية القضاء

 

يبدو أن تشريع “قوانين المحاسبة” في لبنان، في ظلّ حكم أكثرية تحوم حولها شبهات فساد وتضارب مصالح، أقرب إلى المحال منه إلى الإمكان. فالثابتُ، أن أي قانون يهلل له أهل الحكم، لا يمثّل بعد التدقيق، سوى أنّه ذرّ للرّماد في العيون، وتضليل للرأي العام المحلّي والدولي، وتسويق إعلامي، و”عاللبناني” ضحك على الذقون. هكذا حرفياً، أقر قانون “الإثراء غير المشروع”، على يد سياسيّي لبنان المخضرمين في إطلاق التخريجات أو “أرانب” الحلول، فارغاً من المضمون ومُنتقصاً. توالت التهاني بالإنجاز الشعبوي بين صفوف تحالف “التيار الوطني الحر” والثنائي الشيعي، الذي يرى في التشريع امتداداً لنفوذه، وبدأت الإحتفالات في التصريحات كما لو أن القضاء سيبدأ فوراً بمحاكمة الفاسدين واسترداد المال المنهوب بلا رادع أو استنساب. وفاقد الثقة من المواطنين يتساءل: “هل جاء القانون فعلاً كتتمة لجملة من القوانين الهادفة لتعزيز التشريعات المقاومة للفساد وتمكين القضاء من الآليات الكافية للحد منه أم أُقرَّ ليفتح الباب أمام عقد جديدة ستأخذ سنين إضافية لحلحلتها؟

 

إيجابيات وثغرات

 

بعد بروز طبقة جديدة من أثرياء الكسب غير الشرعي بين السياسيين، واصل منسوب الفساد ارتفاعه في البلاد ضارباً كل القطاعات بما في ذلك الحيوية منها، فيما غابت القوانين التي تضمن استقلالية القضاء من جهة، والتي تسهل عمله في التقصي عن مصادر ثروات العاملين بالحقل العام من جهة أخرى، ومنهم موظفو الحكومة “الكبار” ممن يخضعون لسلم دخل محدد. فانتفض الشارع مراراً، وطالب باستعادة المال المنهوب والمحاسبة وسحب الملفات من أدراج النيابات العامة، و”شنق” المرتكبين. لذا، وبعد مرور قرابة السنة على الثورة المطلبية، وكـ”تنفيسة” للشارع الغاضب في الداخل، والمجتمع الدولي المراقب في الخارج، أقر مجلس النواب اقتراح قانون “الإثراء غير المشروع” بنسخته المعدّلة والمفصّلة على قياس المسؤولين، في إطار يلبس ثوب “تعزيز التشريعات المتعلقة بمقاومة الفساد ومنع تضارب المصالح وترسيخ الحوكمة الرشيدة في القطاع الحكومي”، ويخبئ “أرنباً” في “عب” التفاصيل قد يحول دون ذلك! وأوضح عضو تكتل “الجمهورية القوية” القاضي السابق النائب جورج عقيص والذي كان عضواً في اللجنة الفرعية التي درست القانون، أن للقانون ايجابيات لا بد من ذكرها وثغرات لا بد من التنبه إليها.

 

أولاً، وقبل الخوض في التفاصيل، يرى عقيص أنه لا بد من الإشارة إلى أنه في لبنان كان من الضرورة الحتمية العمل على إقرار قانون عصري لمكافحة الاثراء غير المشروع، وهو من مستلزمات تطابق البيئة القانونية اللبنانية مع الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد UNCAC التي انضم اليها لبنان عام 2008. وبناء على ذلك، في العام 2009 بدأت الحكومة تأمين شروط تطبيق الاتفاقية من خلال ارسالها مشروع قانون بتعديل قانون الاثراء غير المشروع الذي كان صدر سنة 1999 تحت رقم 154 وكان قانوناً كارثياً أعاق عملية مكافحة الاثراء غير المشروع بدل تسهيلها.

 

وبالتالي، إن اهم مميزات القانون الذي أقرّ منذ يومين، تتلخص، بحسب عقيص، في أمرين أساسيين، أولاً “انها قلبت عبء الاثبات فألقت على الموظف العمومي اياً تكن وظيفته (رئيس وزير نائب قاض موظف)، اثبات شرعية الازدياد غير المبرر في الثروة. وهذا انجاز قانوني كبير لأن الاصل قبل ذلك كان ان تثبت سلطة الملاحقة عدم شرعية الاموال، فصار الموظف اليوم ملزم بتبرير شرعية الزيادة في الثروة”.

 

ثانياً، “أعطى القانون الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد سلطة حصرية بتلقي وجمع التصاريح عن الذمة المالية من مختلف الموظفين العمومية والتحقق من صحة مضمونها. وهذا سيخلق مناخاً من الجدية في التعامل مع هذه التصاريح”. والخشية في هذه الجزئية “هو الاستمرار في المماطلة بتشكيل الهيئة تحت حجج وذرائع مختلفة. بمعنى ان تفريغ قانون الاثراء غير المشروع من مضمونه قد يحصل أولاً من خلال تعطيل أو تأخير تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد و”دق المي مي”.

 

أما الثغرة الأهم، التي انتقدها عقيص بشدة، فتكمن في “ما حصل خلال الجلسة التشريعية بالنسبة الى المادة 11 من القانون الذي أُقر، والتي كانت بصياغتها الاصلية حاسمة لجهة اعتبار جرم الاثراء غير المشروع خارجاً عن اطار مفهوم الاخلال بالواجبات الوظيفية، وبالتالي خارجاً عن اطار المادة 70 من الدستور وخارجاً ايضاً عن صلاحية المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، الذي يشكل حصانة مبالغاً فيها بالنظر الى صعوبة الاتهام والاحالة امامه. إذ كان يقتضي الابقاء على نص المادة 11 كما اقرته اللجنة الفرعية التي كانت برئاسة النائب غسان مخيبر، والاستفادة من المناخ العام الداعي لتعزيز الشفافية.

 

فإن “حذف عبارة “خارجاً عن مفهوم الاخلال الوظيفي”، في الحديث عن جرم الاثراء غير المشروع أبقى على الالتباس في تفسير الاخلال بالواجبات الوظيفية، كما أبقى على ازدواجية صلاحية الملاحقة بين القضاء العادي والمجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وبنتيجة كل ما تقدم ما زالت ملاحقات الرؤساء والوزراء عن جرائم الاثراء غير المشروع على الاشكاليات والصعوبات نفسها، وتحتاج الى قضاة شجعان يجرؤون على توصيف الافعال التي يرتكبها هؤلاء، على انها جرائم اثراء غير مشروع وبالتالي يلاحقونهم امام القضاء العادي، وتجربتنا حتى الساعة مع القضاء بوجه عام غير مشجعة”. إذا، الخوف هنا من توصيف الافعال، فإذا اعتبر القاضي الفعل اخلالاً بالواجبات الوظيفيـــــة بامكانه إعلان عدم صلاحيته للملاحقـــــة، وبالعاميّة “يشيلها عن ظهره”. وهناك أمثلة كثيرة في الماضي تكشف أن باب التملص من المحاسبة هو “في تفسير الأعمال التي تُشكّل خللاً بالواجبات الوظيفية للمسؤولين”، نذكر منها كيف تمت محاكمة الوزير السابق شاهي برصوميان لبيعه مشتقات نفطية أمام القضاء العادي، باعتبار هذا الجرم من نوع الجرائم العادية، التي يحاكم عليها الوزراء أمام القضاء العادي وليس أمام المجلس الأعلى، لكن مجلس النواب عاد واستعاد القضية، وهو تماماً ما يحذر عقيص من تكراره، ولهذا السبب بالذات كان على النص أن يكون فاصلاً وألا يُعدل كما تم التصويت عليه فترك الآن رهينة استقلالية القاضي وقدرته على وضع حدّ لأي ملف فساد يصل إلى يديه.

 

يتابع عقيص: “كما أنه وفي المادة الثامنة، أبقوا على سرية التصاريح عن الأموال والثروة، وهو أمر مرفوض، فمن الصعوبة معرفة ارتكاب الموظف جرم الإثراء غير المشروع وقد حاربت وحيداً مع (النائبة المستقيلة) بولا يعقوبيان لجعل التصاريح علنية ومنشورة، لكن الاكثرية الساحقة من نواب اللجنة رفضوا ذلك بحجة الخوف على حياة النواب والوزراء الأثرياء”.