لا ينتظر الشرق الأوسط مصير المفاوضات النووية آخر الشهر الجاري وحدها. الصراع بين إيران ومعظم العرب وأهل الخليج خصوصاً يزداد حدة. والحرب على «داعش» مستمرة. وستساهم نتائجهما في تغيير جذري للمشهد الاستراتيجي العسكري والسياسي والاقتصادي في المنطقة. الساحات من اليمن إلى العراق وسورية في حراك مستمر. ويستمر معه تصلب المتصارعين. ولا يبدو في الأفق أن ثمة تسوية هنا أو هناك. كأن هذا القوس المشتعل ينتظر صفقة كاملة تطفىء الحرائق الثلاثة. والتعويل على مرحلة ما بعد المفاوضات النووية مع إيران نقطةَ تحولٍ جذرية مبالغٌ فيه. سواء أبرم اتفاق بينها وبين الدول الست الكبرى أم أخفقت المفاوضات ومُدّد لها كما في السابق. الجمهورية الإسلامية لم تنتظر ولا تنتظر نتيجة المفاوضات لوقف «تقدمها» في المنطقة العربية. بل تريد تكريس حضورها ودورها الراجحين وفرضهما على جميع المعنيين بأمن الإقليم والمصالح المتشابكة فيه. ويخشى كثيرون أن يوفر لها الاتفاق الموعود ورفع الحصار والعقوبات سيولة قد توظفها في دعم حلفائها في الدول العربية. لكن قدرتها على مثل هذا التمويل ستتلاشى، إذا لم تثمر المفاوضات النووية. وحتى أوضاعها الداخلية ستزداد سوءاً. لأن الضغوط الاقتصادية ستتفاقم، ومعها غضب الجموع التي اختارت الرئيس حسن روحاني أملاً بانفراجات مع المحيط والمجتمع الدولي تفتح أمامها ابواب العالم ولا تزيدها احكاماً.
حتى الآن لم تقتنع إيران بأن لقدراتها حدوداً. لم تقتنع بأن حلفاءها وقواتهم العسكرية لا يمكن أن يحلوا محل الدولة وقواتها النظامية، على الأقل في اليمن وسورية ولبنان. هناك ثلاث محطات مفصلية تشكل فرصاً لانخراطها مع الجميع بحثاً عن تسويات. أولاً، ثمة مؤشرات من سلطنة عمان إلى أن وساطة مسقط بين الحوثيين وخصومهم قد تشكل اختراقاً يعيد جميع اليمنيين إلى طاولة الحوار بعد وقف الحرب. فهل يعني ذلك أن طهران بدلت سياستها أم أن الحوثيين أدركوا حدود قدرتهم واستحالة انجاز مشروعهم لحكم البلاد؟ وهل يعني أن الترياق العماني سيعجل في شفاء اليمن، غير أنه قد لا يصلح لبلاد الشام؟ ما تظهره سياسة طهران في العراق وسورية ولبنان لا يشي بأي تغيير. إنها تجهد لملء الفراغ الذي يخليه «داعش» في بلاد الرافدين. في حين كان يمكن أن تشكل الحرب على التنظيم في هذا البلد مناسبة لتفاهمات بينها وبين خصومها العرب ما داموا جميعاً يقاتلون الإرهابيين في إطار التحالف الدولي أو من خارجه. هم يلتقون في محاربة «الدولة الإسلامية» التي تشكل تحدياً لنفوذ طهران في بلاد الشام، بقدر ما تهدد أيضاً الدول العربية أو النظام العربي برمته.
في انتظار نتائج الترياق العماني، ما جرى ويجري في اليمن، وفي العراق خصوصاً يسير في اتجاه رفع وتيرة الصراع المذهبي. ويهدد بتفكيك الدولة وتشرذم مكوناتها. ولا حاجة إلى التذكير بالمواقف التي اتخذها ويتخذها أهل السنة اعتراضاً على المجريات السياسية والعسكرية. اعترضوا على اختيار محافظ شيعي جديد لمحافظة ديالى المحاذية لحدود إيران، بخلاف التوافق بين المكونات على أن يكون هذا المنصب من حصة السنة. ومن الواضح أن الجمهورية الإسلامية تريد ضمان أمن حدودها بهذا التغيير في رأس السلطة المحلية لهذه المحافظة. وجاءت إقالة أثيل النجيفي محافظ نينوى لتلقي عليه مسؤولية سقوط عاصمتها الموصل. في حين يجب تحميل حكومة نوري المالكي والقادة العسكريين النصيب الأكبر من هذه المسؤولية. والأهم من كل ذلك حشر بغداد وحكومة حيدر العبادي للقبول بزج «الحشد الشعبي» رأسَ حربةٍ في الحملة لتحرير الرمادي. ولا يخفى ما أثارَ ذلك من انتقادات، وما أنعشَ وينعش من مخاوف لدى أهل السنة من تكرار ما حدث في تكريت على أيدي ميليشيات «الحشد» بعد طرد التنظيم الإرهابي منها.
وهنا تتحمل الولايات المتحدة حصتها من المسؤولية. وبصرف النظر عن غياب الأهداف الواضحة لحرب التحالف الدولي، اعتمدت إدارة الرئيس باراك أوباما سياسةً متناقضة: رفضت عضوية إيران في التحالف لكنها قبلت بالتعاون معها في الحرب على «داعش». هذا من جهة، ومن جهة أخرى ألحت على وجوب تسليح العشائر وزجهم في المعركة واعترضت على إشراك «الحشد الشعبي»، واعترض قادته عليها في المقابل. لكن الطرفين تعاونا في تكريت ويتعاونان في الرمادي! لم تراع الإدارة الحساسية البالغة لدى أهل السنة من تدخل الجمهورية الإسلامية. مع أنها تعرف جيداً أن بين أسباب «نهوض» التنظيم الإرهابي وانتشاره الواسع الرغبةَ في مواجهة إيران، وخيبةَ الأمل من السياسة الأميركية. هذا التناقض الأميركي معطوفاً على عجز حكومة العبادي وارتباكاتها وعدم وضح أهداف التحالف، وضعف الجيش العراقي… كلها عوامل كانت وراء سقوط الرمادي بعدما كان منتظراً أن تبدأ معركة تحرير الموصل! رغم ذلك ستشكل معركة الأنبار علامة فارقة، أياً كانت نتائجها. فإذا فشلت سيكون على الإدارة الأميركية أن تعيد النظر في خطط التحالف الدولي. وستتعزز القناعة بأن الاستراتيجية الحالية لم تثمر. ولا بد من اللجوء إلى قوات برية. ولن يكون الأمر سهلاً على الرئيس باراك أوباما. خطوة كهذه تناقض وتخالف كل أسس سياسته منذ وصوله إلى البيت الأبيض. لذلك يخشى كثيرون أن يغض الطرف عن تدخل بري إيراني واسع، إذا أخفقت ميليشيات «الحشد الشعبي» في القيام بالمهمة. أي أن يتخلى ثانية عن العراق… أما إذا نجحت الحملة في دحر «داعش» سيفتح فصل جديد في الصراع على استثمار هذا النصر بين حلفاء إيران وخصومها. وربما بين القوى الشيعية نفسها.
يقود ذلك إلى إطالة أمد الحرب على «داعش». بل سيزيدها تعقيداً. كانت الإدارة الأميركية تركز على العراق أولاً. ففي بغداد حكومة شرعية استنجدت بها، مثلما طلبت المدد من طهران. وهناك جسم عسكري شرعي أياً كانت الاعتراضات على تركيبته وقيادته مدته بالسلاح وساهمت وتساهم في تدريبه. لكنها مع نهاية السنة ستجد نفسها أمام واقع جديد في سورية. سينتشر قريباً المقاتلون الذين تلقوا تدريباً أميركياً في الأردن وتركيا، من أجل مواجهة التنظيم الإرهابي. وسيعتمدون في كثير من المسائل اللوجستية وغيرها على الأميركيين ومساعدتهم. وهذا ما سيضع هؤلاء في مواجهة النظام وقواته. والواقع أن أميركا لا يمكنها أن تتخلى بسهولة عن هذا «الجسم» العسكري الذي تراهن عليه لمواجهة «داعش». كما لا يمكنها أن تتساهل حيال أي تحرك للنظام في دمشق من أجل سحقه مثلاً. لذلك لم يأت من فراغ تصريح وزير الخارجية التركي مولود أوغلو بأن الولايات المتحدة وبلاده اتفقتا «من ناحية المبدأ» على تقديم دعم جوي إلى مسلحي المعارضة.
بالطبع يراهن بعضهم، قبل ذلك، على إمكان تحريك التسوية السياسية في «جنيف 3»، الشهر المقبل، استناداً إلى الاتصالات بين أميركا وروسيا في هذا المجال. وتيجة ربما للقاءات فصائل معارضة في كل من القاهرة والرياض. لكن ثمة عقبات تعترض انطلاق الحل، بينها استمرار الخلافات على آليات التغيير والفترة الانتقالية ودور رأس النظام، وسبل الحفاظ على هياكل الدولة ومؤسساتها بما فيها الجيش، وتوفير الحقوق والحماية لجميع المكونات. والأهم في هذا المجال هو موقف إيران التي يعتمد عليها النظام السوري اعتماده على موسكو، والتي لا يقل تأثيرها في اتجاهات الحل عن تأثير الكرملين. وهي لم تبد حتى الآن أي إشارة إلى احتمال تخليها عن الرئيس بشار الأسد، مهما بالغت في تقنين مساعداتها له عسكرياً ومالياً. والسؤال هنا هل تجد، بعد الاتفاق النووي، أن من مصلحتها تغيير موقفها في مقابل أن يحفظ لها العهد الجديد في دمشق ما يضمن بقاء خطوط التواصل بينها وبين «حزب الله» في لبنان؟ علماً أن واشنطن لا تمارس عليها ضغوطاً وتشدداً في المسألة السورية لدفعها الى تليين مواقفها… كما فعلت «العاصفة» في أوساط الحوثيين وشركائهم.
الواقع على الأرض لا يؤشر إذن إلى أية ليونة إيرانية. بقدر ما تؤشر تهديدات «حزب الله» لبلدة عرسال إلى إعادة إحياء مشروع ربط الساحل السوري بالسهل اللبناني بلا أي مضائق أو معابر، تسهيلاً للتواصل الجغرافي والديموغرافي بينهما. هو المشروع البديل والجاهز للنظام بعد المكاسب التي حققتها الفصائل المعارضة. وقد بدأ الدعوة إلى تشكيل «درع الساحل» من أجل حماية الساحل والمناطق والمدن التي تعنيه. لذلك يعجل ربما في الانسحاب من مواقع كثيرة لجملة اعتبارات بينها ضغط المعارضة وتنامي قدراتها وتسليحها، ورغبته هو في تقليل نقاط الاشتباك بعد الانهاك الذي أصاب قواته وميليشياته، واستعداده للتعامل مع تقدم مرتقب لخصومه إلى مواقع جديدة سواء نحو حماة أو حلب أو اللاذقية في مرحلة لاحقة. علماً أن هؤلاء الخصوم، وجلهم من الفصائل الإسلامية المتشددة، لا يبدون أي رغبة في التوجه نحو تسوية سياسية سواء في جنيف أو في غيرها.
وجهة الأحداث في العراق وسورية ستكون في الأشهر المقبلة رهن تطور الموقف الإيراني. ورهن مصير الحرب على «داعش» أيضاً. إذا تفاقم الصراع المذهبي بعد معركة الأنبار، وتعذر انعقاد «جنيف 3»، واحتدم التوتر حول عرسال… ستكون بلاد الشام أمام تداعيات خطيرة. أمام حرب أهلية طويلة على غرار ما حصل في أفغانستان بعد خروج السوفيات، أو أمام صومال لن تقوم له قيامة. وسيغرق الجميع في حروب استنزاف مريرة. سيتحول العراق وسورية فيتنام فعلية للجمهورية الإسلامية و»الدولة الإسلامية»! لكن فيتنام استعادت وحدتها، في حين أن أقل ما يتوقعه أهل الشام من احتدام الصراع المذهبي، ومن تنامي الإرهاب «الداعشي»، تفكيك دولهم واندثار وحدة مجتمعاتهم ومكوناتها وتنوعها العرقي والديني والمذهبي والحضاري.