إنّ أغرب ما يحدث اليوم هو التهديد بالفيديرالية والاتهامات المتبادلة بالطائفية، وكأنّ المجتمع استفاق فجأة على الواقع الطائفي المقيت، وأتت هذه الاستفاقة الفجائية بعد طرح تكتل «التغيير والإصلاح» قانوناً انتخابياً جديداً في محاولة للخروج من دوّامة قانون الستين أو التمديد المقيت والمرفوض.
أقلّه، يحاول تكتل «التغيير والإصلاح» إحداث خرق أو تغيير، والوصول الى أفضل تمثيل ممكن بعد سنوات وسنوات من انتهاكٍ للديموقراطية وتعميق الممارسة الطائفية، والأهمّ أنه لم يتقدّم أحدهم بأيّ اقتراح وتمّ التركيز على رفض أيّ مشروع يتقدّم به «التيار».
والمستغرَب أنّ صرخات رفض الطائفية اليوم والتهويل بالويل والثبور وعظائم الأمور وتصوير الموضوع وكأنّه قهرٌ للشعوب، وتوجيه الاستغاثة الاخيرة قبل أن يغرق هذا المركب بمَن فيه، كل هذا فقط بسبب القانون المقترح من «التيار الوطني الحر»!؟
فأين كانت هذه الصرخات حين تمّ تكبيل مجتمع بكامله بممارسات طائفية بحتة، لم ترحم شيئاً؟ أين كانت شعارات القهر حين تقوم أحزاب بكاملها بتثبيت وجودها عبر توظيف طائفي في مؤسسات الدولة، تُستعمل كسلاح في وجه أيّ تغيير أو إصلاح؟ أين كانت عندما كانت كل مجموعة تؤسّس مدارسها الخاصة وتخرّج طلاباً غير مؤهلين للاندماج في المجتمع!
هل اقتصرت طائفيّتنا المقيتة على قانون ما زال يُدرس؟ أين الصرخات من ممارسات أحزاب، 80 في المئة منها طائفية، باستثناء القوميّين إذا أردنا أن ننصف؟
لماذا لا يرفع معتمدو شعار القهر قضية إبعاد الطائفية عن المدارس كما ذكرنا، التي تحوّلت الى أدوات تخرّج مجتمعات طائفية متباعدة، لا اتصال في ما بينها، حتى المدارس الرسمية تحوّلت بحسب المناطق، لا تعتمد على اختلاط المجتمع بل تخلق أجيالاً تتنفس وتفكر وتتصرف بحسب توجهات طائفتها.
أليس القهر في أن تكون أجيال تربّت وكبرت وهي لا تعرف شيئاً عن الشريك الآخر، تربّت على الإحساس بالخطر الدائم من هذا الآخر لأنّ مصالح الزعيم الطائفي تقتضي بإبقاء هذا الخوف حفاظاً على القطيع؟
أليس القهر بأنّ كل المطالب الحياتية وكل تحرّكات المجتمع المدني سقطت لأنّ الطوائف تُصرّ على الدفاع عن زعيمها مهما كان أداؤه؟
أليس القهر في اغتصاب السلطة عبر التمديد، وسرقة وكالة الشعب الذي أعطاها لأربع سنوات فقط؟
ليس القهر اليوم في قانون انتخاب مهما كان شكله، القهر الحقيقي أننا تحت سيطرة طوائف مصرّة على اغتيال الدولة لحماية الطائفة، لأنّ أحزابنا ترفض التحرّر من سطوة الدين، الى درجة أنها تفرض عقيدتها في حقوق الإنسان والمجتمع وشكل الزواج الخ… الى حدّ رفض الزواج المدني الاختياري!
الملفت عودة شعارات مثل الفيديرالية وهي في الواقع موجودة دائماً في اللاوعي عند غالبيّة اللبنانيين، تعود اليوم فقط لأنّ المسيحي الذي كان مهمَّشاً عاد لممارسة دوره وموقعه في السلطة، فالفيديرالية تمارَس في مجتمعنا من سنوات، وهي واضحة للعيان.
أنظر للمدارس والجمعيات الكشفية والإنسانية لترى أنّ كل شيء بات طائفياً، فهل كل ذلك ليس فيديرالية مقنّعة؟ والملفت للنظر أنّ هذه المؤسسات لا تقتصر على المناطق المسيحية بل في كل المناطق بلا استثناء، وفي السنوات الأخيرة برزت تنظيمات استشفائية، تعليمية، إجتماعية، إنسانية وحتى أمنية مخصّصة لفرقاء معيّنين. كل هذا لم يقهر المقهور اليوم!
التحدّي في لبنان بكل بساطة خصوصاً مع عودة موضة الفيديرالية هو موقف واضح من كل القيادات الروحية والشرعية والزمنية المسلمة لإقناع المسيحيين بأنّ المشاركة في الحكم مقبولة شرعاً وأنّ السعي للسيطرة التامة على الحكم ليست غاية عند مسلمي لبنان!
قد يكون هذا الإعلان ضرورة من خلال ورقة تفاهم تشمل الجميع لنتمكن من إقفال الطريق على كل مَن يجهد للوصول الى فيديرالية بالوعي أو في اللاوعي. إنّ ترك هكذا موضوع بلا مواقف واضحةً من الجميع يفتح الباب للتأويلات، خصوصاً عند أصحاب نظرية استحالة الحياة المشتركة مع مَن لا يؤمن بإمكانية الحياة بدولة لا يحكمها مسلم.
هنا لا بد من الإشارة الى ما يحدث في اندونسيا، البلد الذي يسكنه أكبر عدد من المسلمين.
قرأت مقالاً في الـ«نيويورك تايمس» عن الانتخابات في اندونيسيا حيث رُفعت لافتات بأنّ المسلم يجب ألّا يصوّت لمسيحيّ، في اسوأ صورة لانحدار الديموقراطية، طبعاً لبنان بعيد من طروحات كهذه ولكن يجب ألّا نلعب دور النعامة بل طرح كل هذه الأمور من أجل دفنها الى الأبد.
لبنان مختلف وسيبقى مختلفاً، وليكون كذلك يجب أن نعيد بناء الثقة والشراكة الحقيقية. يجب أن نقتنع اليوم أنّ المسيحي بات شريكاً كاملاً وليس من أهل الذمة، وعندما نُرسّخ هذه القناعة يجب أن ننطلق الى بناء المجتمع المدني، الذي يؤمّن عدالة الحقوق للجميع بغض النظر عن الدين والانتماء والمنطقة.
من هنا تبدأ عملية القضاء على القهر وليس من أيّ مكان آخر، أما التهديد بعظائم الامور والثورات المسلحة لإيقاف القهر، فهذه أساليب تمّت تجربتها ولم تنجح إلّا في زيادة التقوقع الطائفي. كم أتمنى ألّا نرجع الى هذه اللغة المرفوضة من الجميع لأنّ القهر ليس وكالة حصرية لمَن يدّعي التحرّر من أمراض هذا المجتمع.
يقول البرت آينشتاين: «العالم لن يتدمّر بسبب مَن يصنع الشر، بل بسبب مَن يراقب الشر من دون أن يفعل شيئاً».